بين الفريق أحمد قايد صالح والمعارض السياسي حسين آيت أحمد: روح نوفمبر بين وحدة العلم ومشاريع التقسيم

مقال يحلل موقفي قايد صالح وآيت أحمد من روح نوفمبر والعلم الوطني، وخطر مشاريع التقسيم والصراع الدولي على مستقبل الجزائر.

في هذه الذكرى، لا أستذكر اسم الفريق أحمد قايد صالح فحسب، بل أستذكر أيضًا اسم حسين آيت أحمد – رحمهما الله تعالى – إلى جانب جيل كامل من قادة الثورة الجزائرية الذين آمنوا بالعلم الوطني الواحد، وبوحدة المغرب العربي وشمال إفريقيا، وناضلوا من أجل تحرير الجزائر من الاحتلال الاستعماري، كما أكد ذلك بيان أول نوفمبر 1954.

كان ذلك الجيل يحمل مشروعًا وطنيًا واضحًا: بناء جزائر حرّة موحَّدة، ذات امتداد مغاربي وإفريقي وعربي، ترفرف فوقها راية واحدة لشعب واحد، رغم تنوّع مكوّناته الثقافية والإثنية. وقد ناضل كثيرون منهم، وسُجنوا، ونُفوا، واستشهدوا دفاعًا عن هذا المبدأ وعن هذه الروح الوطنية.

في المقابل، يُلاحظ اليوم وجود تيارات تُشكّك في العلم الوطني نفسه، وتعمل – تارةً باسم الهوية وتارةً أخرى باسم المظلومية – على تقسيم الجزائر وتمزيق نسيجها الاجتماعي. وتكمن المفارقة المؤلمة في أن جيلًا افتدى وحدة الوطن بدمائه، بينما يغامر جيل آخر برهن وحدته، دافعًا البلاد نحو المجهول، في سياق دولي شديد الحساسية؛ يتقاطع فيه الصراع الروسي–الأمريكي مع التنافس الصيني–الفرنسي، ويمتد فيه طموح الكيان الصهيوني نحو المنطقة المغاربية والإفريقية. وكأن دروس اتفاقيات سايكس–بيكو، ووعد بلفور، ومشروع “الشرق الأوسط الجديد” قد تلاشت من الذاكرة الجماعية.

في هذا السياق، انتقدتُ الفريق أحمد قايد صالح – رحمه الله – حين كان على قيد الحياة وفي أعلى هرم السلطة؛ إذ كان الحاكم الفعلي خلال الحراك الشعبي الذي اتسم بالاختراق وعدم الإطار التنظيمي الواضح، والذي تأثر بالأيديولوجيا والتنافس على المناصب بدلًا من قراءة الواقع بعمق. وأنا لا أزال ملتزمًا بالموقف نفسه وبالمبادئ ذاتها حتى اليوم.

كما انتقدتُ دعاة “الحل الدستوري” الذين سعوا إلى إجراء انتخابات شكلية ضمن المنظومة القائمة ووفق القواعد نفسها؛ إذ إن الاستمرار في النظام ذاته لا يغيّر جوهر الأزمة، بل يعيد إنتاجها في صورة جديدة، مضيفًا عقبات إضافية مع مرور الزمن، حتى يصل الأمر إلى مرحلة يصبح فيها العلاج شبه مستحيل، ويؤدي “الاستئصال” إلى موتٍ مشترك للوطن والمجتمع.

الإشكالية الرئيسية، في رأيي، لا تقتصر على الأشخاص فحسب، بل تمتد إلى منطق إدارة الدولة، ومدى الاستعداد الحقيقي للتغيير وتهيئة الظروف الملائمة له. فالتغيير لا يحدث دفعة واحدة، بل هو عملية تراكمية إيجابية عبر مراحل وأجيال وفي مختلف المجالات.

ولتوضيح الصورة: هل يمكن لأستاذ واحد أن يُنتج، في يوم أو شهر أو سنة، جيلًا كاملًا من المتخصصين في مجالات متعددة؟ إن الأمر يتطلب وقتًا كافيًا، ورؤية استراتيجية، وتدرّجًا منهجيًا، وعملًا مؤسسيًا منظمًا.

ومع ذلك، استمر الاعتماد على لغة القوة بدلًا من لغة المشروع الوطني الجامع المبني على الدراسات العلمية والإقناع. كان الرهان على القبضة الأمنية، لا على صياغة تعاقد سياسي جديد يؤسس لجمهورية حقيقية قائمة على أسس سليمة، تفتح الباب أمام مصالحة وطنية شاملة تشمل جميع مكونات المجتمع.

اختار الراحل قايد صالح – رحمه الله – لغة الإخضاع بدلًا من لغة الإقناع. قُدِّمت السلطة بوصفها الطرف الوحيد الذي يمتلك الحقيقة ويفهم الواقع، مع إلزام الجميع بالخضوع أو التهميش. قلنا حينها إن الرئيس الذي سيصل هو عبد المجيد تبون، بناءً على اعتبارات موضوعية شرحناها في مقالات سابقة تناولت السيناريوهات المحتملة. وفي الوقت نفسه، حذّرنا من أن المرحلة الانتقالية تمثل فترة زمنية ضرورية للانتقال من نظام استبدادي إلى نظام عادل، وأنها ليست مجرد توافق على أشخاص وتعيينات، بل توافق على مشروع وطني جامع. اقترحنا المصالحة حلًّا جذريًا، محذّرين من أن تدوير الوجوه والعقليات نفسها سيؤدي إلى طريق مسدود، واحتقان قد ينتهي بانفجار يفتح الباب لضياع الجزائر والمنطقة.

أكدنا أيضًا أن الاستعانة بشخصيات وطنية نزيهة من مختلف الحساسيات كان يمكن أن يفتح أفقًا للحوار والتوافق، وصياغة مشروع جامع يحترم روح نوفمبر. لكن تلك الدعوات جرى تجاهلها، وقوبلت النصائح والتحذيرات بشعار متعجرف: «من أنتم؟». واليوم، ما نشهده ليس مفاجأة، بل نتيجة منطقية لتلك الاختيارات الأساسية الخاطئة.

في الجانب الآخر، هناك من يرد على سياسة القوة بخطاب إقصائي مضاد، يهاجم العرب واللغة العربية، ويرى الحل في محو مكوّن لصالح آخر، أو استبدال علم بهوية أخرى. هذا المنطق، مهما ادعى الدفاع عن “الحقوق” أو “الأصالة”، يؤدي إلى النتيجة نفسها: تفكيك الدولة من الداخل. وقد ميّزنا سابقًا بين الدولة والسلطة والنظام.

من يتوهم قدرته على إلغاء الآخر – سواء كان عربيًا أو قبائليًا أو مزابيًا أو شاويًا أو طوارقيًا أو غيره – إنما يمهّد لإلغاءٍ متبادل، ويدفع الآخر نحو المواجهة. فالذي يطالب اليوم بإلغاء رموز أو لغة أو منطقة، قد يجد نفسه غدًا هدفًا للاستهداف نفسه. وكلما شعر طرف بالتهديد الاستئصالي، لجأ إلى المقاومة – بأضعف الإيمان – كوسيلة للبقاء.

الفرق الجوهري بين شخصيات مثل آيت أحمد وكثير من الأصوات البارزة اليوم يكمن في الآتي:

كان آيت أحمد معارضًا سياسيًا، نعم، وحمل السلاح مع آخرين في مرحلة معينة، لكنه ظل وحدويًا؛ مؤمنًا بالعلم الوطني، وبوحدة التراب الوطني، وبوحدة المغرب العربي – التي أصبح مجرد ذكرها اليوم يثير جدلًا لدى التيارات الانفصالية – وبممارسة العمل السياسي السلمي والتنافس الديمقراطي النزيه.

ودليل ذلك تنسيقه مع شخصيات وطنية أخرى في انتخابات 1991 و1999، ورفضه لخط الاستئصال الذي قاده العربي بلخير وخالد نزار، ودفاعه عن حبيب سوايدية في محكمة باريس، حيث أدلى بتصريحات حادة ضد نزار. قال له: "بيني وبينك نهرٌ من الدماء".

كان يرى أن التغيير الحقيقي لا يأتي بتفتيت الدولة، بل بحماية حدودها والتمسك بسيادتها، وإصلاح مؤسساتها لبناء هيكل شرعي يمثل الجميع.

أما بعض من جاء بعد جيل الثورة، فقد حوّلوا خطاب المظلومية إلى أداة سياسية: إما لتبرير استمرار النظام القائم تحت شعار “الحفاظ على الاستقرار”، أو لتبرير مشاريع تقسيمية تُقدَّم بوصفها “تحريرًا جديدًا” أو “استقلالًا ثانيًا”.

وهنا يكمن الخطر الأعظم: في ظل صراع دولي محتدم، تبحث القوى الكبرى – روسيا، الولايات المتحدة، الصين، فرنسا وغيرها – عن موطئ قدم ومناطق نفوذ، بينما لا تُخفي إسرائيل أطماعها في تفكيك محيطها الإقليمي، بما في ذلك شمال إفريقيا. في مثل هذا المناخ، تصبح أي دعوة إلى التمزيق الداخلي، أو استبدال العلم الوطني برموز موازية، أو الإقصاء، أو المواجهة المسلحة، هدية مجانية لمن يتربص بإضعاف الجزائر والمنطقة، وربما السيطرة عليها.

ومن ثم، يوجّه هذا المقال تحذيرًا أساسيًا إلى طرفين معًا:

إلى أهل السلطة: إذا استمروا في سياسة القوة والعناد، وتبنّي منطق الإقصاء بدلًا من الحوار والإصلاح الحقيقي.

وإلى أصحاب خطاب الكراهية العرقية واللغوية: الذين يزرعون العداء بين مكونات الشعب باسم الهوية أو التاريخ أو “الحقوق”.

كلا الطرفين، رغم عدائهما الظاهري، يلتقيان موضوعيًا في خدمة النتيجة نفسها: جزائر ممزقة، ومغرب عربي منهار من الداخل، ومجال مفتوح للتدخلات الخارجية.

البديل لا يكمن في التجميل اللفظي أو العودة إلى الوصفات القديمة، بل في:

العودة إلى روح بيان أول نوفمبر: شعب واحد، أرض واحدة، علم واحد، مع الاعتراف بالتعدد الثقافي واللغوي داخل هذا الإطار الوطني.

بناء مصالحة وطنية حقيقية: لا تستثني الضحايا، ولا تغطي على الجلادين، ولا تختزل في عفو فوقي أو ترتيبات ظرفية، بل تؤسس عدالة انتقالية ضمن مشروع وطني جامع، ومؤسسات شرعية، وذاكرة مشتركة، وضمانات ضد تكرار المآسي، وفق ميثاق وطني ومؤتمر لنهضة الجزائر.

رفض منطق الإقصاء بكل صوره: سواء إقصاء المعارض بالقوة، أو إقصاء مكوّن شعبي باسم آخر، أو استبدال مشروع الدولة الوطنية بمشاريع دويلات عرقية أو طائفية.

في الخلاصة:

دفع جيل الثورة ثمنًا باهظًا ليرفرف علم واحد فوق أرض الجزائر، وليبقى حلم وحدة المغرب العربي وشمال إفريقيا حيًا. من واجبنا تجاه هذا الجيل ألا نسمح بتحويل هذا الحلم إلى كابوس تقسيم؛ لا بسياسة القوة العمياء من الأعلى، ولا بخطاب الكراهية والانفصال من الأسفل، بل بمشروع تعايش وتآخٍ، ووحدة ومصالحة وطنية شاملة حقيقية، تحفظ للجزائر موقعها، ولشعوب المنطقة حقها في مستقبل يُصنع بإرادة أبنائها، لا في غرف المخابرات الأجنبية.


نور الدين خبابه

23 ديسمبر 2025


إرسال تعليق

[facebook]

أرسل رسالة نصية

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget