في سياق الجزائر المعاصر، حيث يحدث اختلاط متعمد أو غير متعمد في المفاهيم السياسية والوطنية، يصبح من الضروري إعادة النظر في تأسيس البديهيات الأساسية. هذا الجهد لا يهدف إلى التفوق الفكري المجرد، بل إلى إثراء النقاش العام ومحاولة متواضعة لتصحيح التوجهات: نحن نعارض السلطة التنفيذية وننتقد النظام السياسي بشفافية كاملة، دون اللجوء إلى الهويات المستعارة، إلا أن معارضتنا هذه لا تمتد إلى عداء الدولة الجزائرية ككيان، ولا تسعى إلى تفكيك أركانها كما تفعل بعض التوجهات الأخرى.
على العكس، فإن دفاعنا المستمر عن مبادئ الحقيقة والعدالة والمصالحة الوطنية يُعدّ دفاعًا جوهريًا عن الدولة نفسها؛ إذ إن غياب الحقيقة يولّد الكذب المؤسساتي، وغياب العدالة ينتج الحقد والضغائن وتصفية الحسابات، وغياب المصالحة الواعية يؤدي إلى إعادة إنتاج المآسي التاريخية.
من هذا المنطلق، تبرز حساسية قضية الرموز الوطنية. فالعلم الوطني لا يُمثل شعار النظام السياسي الحاكم، ولا بطاقة تعريف السلطة التنفيذية أو الشخصيات التي تعاقبت عليها، بل هو رمز للدولة ككيان سيادي ولهوية جامعة. وإذا ما ازداد انتشار الأعلام المتنافسة في الفضاء العام، فإن ذلك لا يُعدّ مجرد تفصيل شكلي، بل إشارة تحليلية إلى محاولات تفكيك المشترك الوطني، وتحويل المجتمع الجزائري إلى معسكرات هوياتية فرعية تتصارع بدلاً من التعايش ضمن إطار وطني موحد.
الدولة ليست السلطة... والعلم ليس ملك النظام
تُعرّف الدولة ككيان جامع يشمل: الأرض ضمن حدودها السيادية، الشعب، السيادة المستقلة في اتخاذ القرار، المؤسسات الشرعية، الذاكرة التاريخية، والتراث الثقافي واللغوي. أما السلطة فهي الجهة التي تمارس مهامها التنفيذية في مرحلة زمنية معينة وقابلة للتغيير، والنظام هو المنظومة الحاكمة بأدواتها ومصالحها وآليات إدارتها.
بناءً على هذا التمييز النظري، يمكن القول بثقة: العلم الوطني هو رمز الدولة، لا رمز السلطة أو النظام. قد يستخدم النظام العلم في المناسبات الرسمية، لكنه لا يمتلكه حصريًا، وقد تسيء السلطة استخدامه، إلا أن ذلك لا ينتقص من شرعيته الجامعة. فالعلم ثابت لا يتغير بتغير الحكام أو الحكومات، لأنه يمثل عنوان الدولة ككيان دائم، لا صورة نظام عابر.
تآكل السيادة... نهاية الدولة
فقدان الدولة لسيادتها واستقلالها يعني نهايتها ككيان سياسي مستقل، وهذا ليس مجرد شعار عاطفي، بل حقيقة تحليلية في علم السياسة: الدولة غير السيادية تتحول إلى إدارة شكلية خاضعة لتأثيرات خارجية، رموزها تصبح ديكورًا فارغًا، حدودها عرضة للابتزاز، ووحدتها مهددة بالتفتت. ومن أبرز مؤشرات تآكل السيادة تحوّل الرموز الجامعة إلى أداة للمساومة أو المنافسة، سواء تحت ذريعة "الهوية" أو "الاختلاف" أو "الاحتجاج"، بينما الهدف الفعلي هو تقويض الرابط الوطني المشترك.
الثقافة مكوّن من الهوية... لكن الهوية الجامعة هي الإطار الأعلى
الثقافة جزء أصيل من الهوية، والتنوع الثقافي في الجزائر يُعدّ ثروة لا جدال فيها. غير أن التمييز ضروري بين التنوع داخل الدولة كإطار موحد، والتعددية الموجهة ضد الدولة. فالهوية الوطنية الجامعة لا تلغي المكونات الفرعية، بل توفر السقف الذي يتيح لها التعايش دون صراع على الشرعية أو الولاء: ثقافة مشتركة في حدودها الدنيا، ذاكرة وطنية موحدة، مصالح مشتركة، ورموز جامعة في مقدمتها العلم الوطني.
رفع علم "بديل"... إلى أين يقود؟
إذا اعتُبر رفع علم جهوي أو ثقافي خاص مشروعًا لأن العلم الوطني "لا يمثل هوية معينة"، فما موقف المكونات الأخرى؟ ما هو العلم المخصص للهوية العربية، أو الشاوية، أو الميزابية، أو الطارقية؟ ما الذي سيبقى من المشترك الوطني إذا تحولت كل راية إلى أداة تمييز بدلاً من أداة تجميع؟ وفتح هذا الباب لن يتوقف عند الجهوية، بل سيمتد إلى انقسامات أيديولوجية ودينية وثقافية متعددة، مما يحوّل الوطن إلى ساحة تنافس رمزي، ويجبر المواطن على اختيار معسكر بدلاً من الانتماء إلى دولة موحدة.
عدم ترك مساحة للمتلاعبين: الاعتراف اللفظي والنسف العملي
أخطر جوانب ظاهرة "كثرة الأعلام" هو منح الجهات المتلاعبة فرصة للاعتراف الشكلي بالعلم الوطني لفظيًا، مع تقويضه عمليًا عبر تعزيز رموز منافِسة أو إحداث فرز جديد بين المواطنين. المعيار التحليلي واضح: الرمز الثقافي المحترم ضمن إطار الدولة أمر مشروع، أما الراية المرفوعة كبديل أو منافس لرمز السيادة فهي أمر مختلف جوهريًا.
النضال من أجل التغيير لا يبرر تفكيك أركان الدولة
المطالبة بالحقيقة التاريخية تهدف إلى منع تكرار المآسي، لا إلى إثارة الفتن. والدعوة إلى العدالة تسعى للإنصاف الشافي، لا للانتقام. أما المصالحة فتُراد واعية، مبنية على مواجهة الذاكرة دون طمس أو تزييف. غير أن كل ذلك يظل ضمن القاعدة الجوهرية: تغيير النظام ومحاسبة السلطة ممكن ومشروع، لكن تفكيك الدولة أو ضرب رموز سيادتها غير مقبول.
خاتمة
في ظل انتشار الرموز المنافسة وتشتت الولاءات، يجب عدم الانخداع بالشعارات البراقة التي قد تخفي مشاريع تفتيتية، أو بالخطابات الناعمة التي تداري أهداف التفكيك. التمسك بالعلم الوطني ينبع من وعي سياسي عميق: ليس دفاعًا عن نظام زمني عابر، بل عن دولة دائمة توفر الإطار الآمن للجميع. فإذا تآكل هذا الإطار الجامع، فإن النتيجة ستكون فوضى شاملة لا ينجو منها أحد — لا السلطة ولا المعارضة، لا الظالم ولا المظلوم. الجزائر، في النهاية، دولة واحدة، شعب واحد، علم واحد.
نور الدين خبابه
20 ديسمبر 2025

إرسال تعليق