قد تبدو هذه العبارة صادمة ومذهلة بل ومؤذية في ظاهرها، لكنها تحمل بين جنباتها مفارقة عميقة يعيشها كثيرون منا، سواء في البلدان العربية والإفريقية التي يرمز لها بالاستبداد والشمولية أو حتى في أوروبا وأمريكا وأستراليا التي توصف بأنها رمز للتقدم والتحرر. كيف يمكن لشخص حرٍّ أن يشعر بالسجن بينما يرى الأسرى ينالون حريتهم؟ أليس هذا تناقضًا في المنطق؟ ربما، لكنه تناقض يعبّر عن حقيقة مريرة وشعور غريب يتملك الإنسان ويدعو أصحابه إلى التدبر والتفكير.
الحرية.. أكثر من مجرد غياب القيود
الحرية، أيها السادة، ليست مجرد غياب القيود الجسدية، بل هي إرادة وفعل وقدرة على التأثير، وسيادة فوق كل هذا واستقلال. إنها ليست مجرد الحق في التحرك جسديًا، بل الحق في اتخاذ القرارات، في تغيير الواقع، في الرفض والمقاومة، في إيجاد معاني جديدة لحياة الإنسان. عندما ينجح شعب يرزح تحت الاحتلال لعقود، محاصر جوًا وبرًا وبحرًا، محاط بجدران إسمنتية وبكاميرات مراقبة تصور النملة عند حراكها، ومحروم من أبسط الحقوق، في فرض معادلة تفضي إلى تحرير أسراه عبر مقاومة يحتار فيها العقلاء، وعندما لا يستسلم ولا يخون ويصمد رغم الإبادة التي يتعرض لها، وعندما لا يساوم رغم المغريات... فإن ذلك يعبّر عن قوة الإرادة والبصيرة والصبر والانتصار على القيود المفروضة عليه. فيما تبيع فئات في مجتمعات أخرى ذممها مقابل الفتات وتصبح أسيرة للشهوات والأهواء.
حين يكون الأسرى أكثر حرية من الأحرار
الأسرى في السجون، رغم القيد الجسدي، يحملون حرية الإرادة والنضال، بينما من هم خارجها قد يكونون أسرى قيود غير مرئية: الخوف، العجز، التردد، التيهان، الأهواء، إضاعة الأوقات. ما يثير الدهشة هو أن من يعيشون في مجتمعات توصف بأنها "حرّة" قد يشعرون أحيانًا بأنهم أكثر تقييدًا من أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال أو الأسر. لماذا؟ لأن الحرية الشكلية لا تعني دائمًا القدرة على الفعل، بل قد تكون سجنًا من نوع آخر، حيث تقيدك القيود النفسية والاجتماعية والسياسية.
أسرى بلا قيود مرئية
الإنسان قد يكون أسيرًا لـ:أنظمة سياسية قمعية تُحاصر الفكر قبل الجسد.خوفٍ متجذّر من التغيير والمواجهة.
مصالح شخصية أو فكرية تجعله رهينة للواقع القائم.إحساس باللاجدوى، يجعله يراقب الأحداث دون أن يكون فاعلًا فيها.
حين يصبح الأحرار أقل حرية من الأسرى
الفرق الحقيقي بين الحرية والأسر ليس فقط في المساحة التي يتحرك فيها الإنسان، بل في قدرته على الفعل والتأثير. الأسير الذي يناضل داخل السجن أكثر تحررًا من شخص يعيش في فضاء واسع لكنه مكبّل بقيود الخوف والعجز. لذلك، عندما نرى الأسرى يُحررون، نشعر بالسجن لأنهم، رغم القيود، استطاعوا الفعل، بينما نحن، رغم الحرية الظاهرية، نشعر بالعجز. إن هذه المفارقة ليست مجرد شعور شخصي، بل حالة قد تعكس أزمة حرية حقيقية في عالم يدّعي التحرر لكنه يعيش في سجون التيه.
مفاهيم الحرية والأسير: مقارنة أعمق
لا تقتصر فكرة الأسر على الجدران والأسلاك، بل تتجاوز ذلك إلى ما هو أخطر، وهو الأسر الفكري والمعنوي. فالشعوب التي تعيش في ظل "حرية" قد تكون أسيرة لأنظمة فكرية أو ثقافية تقيد خياراتها الحقيقية. في المجتمعات الغربية مثلًا، قد يشعر الفرد بحرية سطحية في تحركاته اليومية، لكنه يبقى أسيرًا للأيديولوجيات السائدة أو لقيم الاستهلاك المتزايد التي تؤثر على خياراته بشكل غير مباشر.
خاتمة: أي سجن هو الأخطر؟
إن أخطر أنواع السجن والأسر والاعتقال ليس ذاك الذي تحيط به الجدران والأسلاك والكاميرات، بل ذلك الذي يُبنى داخل العقول والقلوب. قد يتحرر الأسرى من سجونهم، لكن هل يستطيع المدعون للحرية أن يتحرروا من سجونهم الداخلية؟ هل يمكن لنا أن نتساءل: هل المجتمعات "الحرّة" حقًا حرة؟ أم أننا نعيش في سجون من نوع آخر، حيث القيود النفسية والفكرية أقوى من أي قيد جسدي؟
نورالدين خبابه 25/01/2025
إرسال تعليق