قبل أن أبدأ حديثي عن مجموعة أولاد عبد الواحد، أعرف أن هناك بعض المتفيقهين... ولذلك يجب أن يعلم من يقرأ كلامي أن ما أصفه واقع عايشناه، وليس عقيدة نحملها... فيجب التفريق بين المسألتين... وما أقوم به يدخل في إطار التدوين للأحداث، لا سيما والكتابة في المنطقة تكون شبه نادرة.
لم أكن أعرف شيئًا عن قبيلة أولاد عبد الواحد برأس الوادي، ولاية سطيف سابقًا، ولاية برج بوعريريج حاليًا. كيف اختارت تلك البقاع كموطن لها...؟ ولا عن أصولها ومعتقداتها وخلفياتها... ولا عن تشابه الأسماء للقبائل العربية التي سكنت قلعة بني حماد، وتحصّنت فيها، وامتدّ حراكها إلى أم البواقي، ومنهم من سكن فرجيوة ولاية ميلة.
وأذكر: أولاد تبان، أولاد حناش، أولاد مخلوف، أولاد سالم، أولاد سيليني... إلخ.
وكل ما أتذكره وأنا طفل صغير عن أولاد عبد الواحد... كنا نطير فرحًا عند قدومهم إلى قرية الدشرة التي أنحدر منها...
وكم كنا نسعد بلقياهم، ونأتي لهم بالعشاء ولمرافقيهم... ونبيت ليلة من أسعد الليالي، لا لشيء إلا لأننا كنا محرومين من أبسط متاع الدنيا، ومنقطعين عن العالم باختصار. فلا كهرباء، ولا غاز، ولا مرافق ترفيهية، ولا تلفزة، ولا وسائل إعلام، ولا نقل... ولا أبسط الضروريات التي تخصّ الإنسان اليوم، ولكن كنا بفطرتنا السليمة أنقياء، ولا نكثر الحسابات.
كانوا يصنعون الفرجة، ليس في قريتنا فحسب، بل في كل الأماكن التي يزورونها، لا سيما القرى المحرومة... ويسعدوننا أيّما سعادة بحركاتهم وتمايلهم وتنظيمهم، وهذا ما هو ظاهر أمام أعيننا... والله حسيبهم.
وكم كانوا لطفاء مع الأطفال، ويدعون لهم بالنجاح... ويمسحون رؤوسهم، ومن بين مشايخهم من يعطيهم قطعة جاوي... ليعطروا بها البيوت، طردًا للوساوس والشياطين، وجلبًا للسعادة، كما كان شائعًا.
يرتدون برانيس بيضاء وعمائم مزركشة بالأصفر، وقائد المجموعة الذي يُلقب بـ"الشاوش"، هو من يتلقى مبلغ الزيارة التي كانت تُسربها العجائز المسكينات طمعًا في دفع الشرّ عن أحفادهن.
كنا نتعجب: كيف يأكل بعضهم الشوك؟ وكيف يسقط آخر مغشيًّا عليه في تلك الحضرة التي كانوا يعقدونها! وكيف كانوا يستعملون طقوسًا غريبة على أهل القرية، ويختارون بيوتًا بعينها لزيارتها... وكأنهم يستعطفونهم بذكر المشايخ؟
يأتون كل سنة في فصل الربيع! لست أدري لماذا يختارونه من بين الفصول؟ ربما لأن جوّه معتدل ويساعدهم في الرحلة الطويلة؟
كنا نلتقيهم في أولاد عمر، وهي قبيلة أخرى تسكن أعالي الدشرة، التي كانت تُلقب قديمًا بـ"القلعة"، نسبةً للحجر الذي كان يعلوها، وتُسمى "القليعة" حاليًا بعد تكسير الكلمة... وتتوسط أولاد عمر، الدشرة ورأس الوادي... وكم كنا نتشوق لرؤياهم... ومنا من يلتقيهم في "مزيطة"، المُطلة على رأس الوادي.
نتطلع إليهم ونحن صغار، كما ينتظر غيرنا بزوغ الهلال... لا تؤاخذوني على التشبيه، والمبالغة في الوصف، فليس ذاك معتقدي، فأنا أنقل لكم ليس شعوري الخاص فحسب، بل شعور أغلب الأطفال البراءة مثلي، من الذين عايشوا أولاد عبد الواحد، والشباب وقتذاك...
بعد أن ننتهي من الدراسة في مدرسة "التهذيب" بالقرية في السبعينيات، وكانت تابعة لجمعية العلماء قبل الثورة، وقد أُسست بطلب من الشيخ البشير الإبراهيمي، كما هو مدوّن في جريدة البصائر، والذي تعود نشأته إلى أولاد إبراهيم في رأس الوادي... المدرسة التي سنعود إليها في موضوع منفرد... قبل أن تُصبح مدرسة رسمية.
نتناول قسطًا من كسرة المطلوع وشربة ماء... ثم نخرج فرادى وجماعات... وأحيانًا تقع خصومات بين الأطفال في الطريق، لا سيما وهناك من يعترض طريقنا قصد منعنا... وفي الغد يكون اللقاء في المدرسة، ويا ويلك إذا اعتديت على أحد... وأذكر فقط على سبيل المثال "هوشة" كبيرة وقعت بين ك. بن فرج وزواوي ق.
عندما نصل أولاد عمر، وهي نصف طريقنا، هناك عين عذبة نشرب منها، ونتزود بحبات تمر أحيانًا، من عند رفقائنا في المدرسة، من عائلات بوختالة وبلحسين...
وفي طريقنا دائمًا، على بعد كيلومترات، نقطف أنواعًا من الأعشاب التي نجد فيها لذة ومتعة، مثل: التالمة، الحرايشة، اللتفاف، الغيز... إلخ.
لم يكن هناك هاتف نقال، ولا مواصلات مثل اليوم. لست أدري كيف كنّا "نشُم" رائحة مجيئهم؟ ربما لديهم شخص أو اثنان يأتيان إلى سوق الغدير لبيع التمر فيُسرّبان خبر المجيء، ومن يدري؟
يطلّ بعضهم، فنَجري مسرعين لاحتضانهم، ونتنافس في ذلك، وكأننا سنلتقي ذوينا بعد هجرة طويلة... ومن ثم يبدأون العزف على القصبة، وضربات البندير... نغمات ودندنات خاصة بهم.
تشعر، وأنت تسمعهم وهم يتوجهون مع بعض في مجموعة يمينًا وشمالًا، يُحرّكون رؤوسهم، ولهم قائد يوجّههم، تارة إلى جبل، وأخرى إلى بيت، وكأنهم يُخاطبون أرواحًا لا نراها ويُحيونها...
ويختلجك شعور غريب، وأنت ترى حركاتهم، من خلال القسمات التي ترتسم على الوجوه...
ينتشر الخبر بسرعة البرق، فتزهو القرية عن آخرها، ويصل الخبر إلى الغدير، فيأتي بعض الشباب جماعات للسمر.
ينزل أولاد عبد الواحد من أولاد عمر باتجاه الغدير، أعالي الدشرة، ومعهم بعض الجديان والدواب... وأثناء طريقهم إلى المسجد العتيق، الذي يبيتون في إحدى غرفه وتُسمى "المعمّرة"، وكانت مخصصة لعابري السبيل، يواصلون عزفهم بطريقة متقطعة.
عند وصولهم، يختارون الجهة العليا تحت زاوية طرش في الطريق باتجاه الغدير، فيلتمّ الجمع هناك، ويبدأون في عزفهم على القصبة والبندير بإيقاعهم الخاص، ثم يختمون جمعهم بالدعاء...
يأمرون بعض من معهم، مصطحبين بعض أبناء القرية، فيأخذون البهائم التي جاؤوا بها إلى جهة "العنصر"، أمام المدرسة الابتدائية التي تحولت الآن إلى متوسطة... وهناك، يرعى الأطفال بعض أغنامهم من الأعشاب، ويُسقون مواشيهم من ماء العنصر. يتوضأون، ويُصلّون المغرب والعشاء في المسجد، ويأكلون ما تيسّر لهم. وعادةً، يكون العشاء خبزة ولبن، أو بربوشة بالحليب، وفي بعض الأحيان، هناك من يستضيف بعضهم... وفي الغالب، لا يتعدى عددهم 30 شخصًا، أما المتفرجون، فهم أغلب سكان القرية، إضافة إلى القادمين من أماكن أخرى...
بعد صلاة العشاء، تُفتح سهرة أخرى على أنغام القصبة، حيث يتم استعراض بعض الطقوس، ومنها: مضغ الشوك، أو السدرة، نبتة "الحرايق"، وضع الجمر داخل الفم... مع اختيار أناس من داخل الحلقة التي يديرونها، وإخبارهم بأشياء غيبية، سواء: امرأة عاقر ستحمل، أو شخص سيتزوج، أو طفل سينجح، أو غريب سيعود، أو مريض سيُشفى... والمحظوظ، من اختاره من كان في الحضرة.
وتنتهي السهرة ليلًا، في حدود منتصف الليل، على ضوء القمر أو الفنار.
في الغد، وبعد الفجر، يعودون مشيًا على الأقدام، دون عزف، إلى الشواثرة، الطريق الذي سلكوه بالأمس، ربما حتى لا يزعجوا النيام؟ ومن ثم، بعد بزوغ الشمس، يشرعون في زيارة بيوت بعينها، بعد أن يمرّوا على "المصلى" الذي تحوّل إلى مسجد في نهاية الثمانينيات أو بداية التسعينيات... فيجمعون هناك الخبزة التي يتم طهيها خصيصًا لهم.
وكل البيوت التي يزورونها هي مساكن قديمة لمشايخ القرية من حفظة القرآن، ممّا يبيّن أن مجموعة أولاد عبد الواحد كانت لها ميول صوفية، وهناك طريقة يتبعونها... لا يمكن الخوض فيها في هذه العُجالة.
والغريب أن هذه الطقوس حدثت بعد موت مشايخ القرية!
بيت بن قري، حيث الشيخ الطاهر بن الحواس.
بيت الحاج الشريف شوثري.
بيت العدوي "حميدة"، الذي تعود أصوله إلى أولاد عدي.
بيت طرش، حيث الزاوية.
بيت الشيخ أحمد خبابه، حيث توجد أول زاوية في القرية، والتي تعود إلى ما قبل الاحتلال... وفيها تعلّم السعيد طرش...
وأذكر أن إمام القرية، الشيخ الطاهر خبابه، كان ينهاهم عن العزف داخل البيت، ولكن ازدحام الشباب يجعله يلين موقفه لمسايرتهم، طمعًا في دعوتهم بالرِّفق، وخوفًا من حدوث انزلاقات...
فيدخل شيخهم، ومن هم طاهرون، للتبرّك بالمكان، وزيارة غرفة الشيخ أحمد، والدعاء له، ويشربون من العين داخل المراح، والتي كانت مكانًا للوضوء...
ثم يواصلون سيرهم إلى زاوية الحاج السعيد طرش، أعلى المسجد العتيق، وهم يؤدّون بعض الأهازيج، ومنها:
"الحاج السعيد، أتقعد قداشك جاك، عطشان وطالب المورد، جئنا زيار لمقام الحاج السعيد، الحاج السعيد وأولاده، بن الأطرش لا من قده..." إلخ.
ومن ثم إلى المقبرة، حيث يزورون قبر الحاج السعيد بن الأطرش، في سكينة وهدوء، ويدعون له...
ثم يخرجون من المقبرة، ويودّعون أهل الدشرة، ويتجهون إلى الغدير، على بعد 3 كلم، مشيًا على الأقدام.
ومن الغدير، يمرّون إلى مكان "الديلمي" و"الخلفاوي"، وهو موضوع سنعود له في المستقبل، ثم إلى قرية تافرنت، حيث يتناولون الغداء، ثم أعالي أولاد سيدي منصور... ويتجهون إلى جبل سيدي سحّاب، ومنه إلى مقام سيدي عطية، وهم يرددون:
"يا سيدي عطية، وأنا جيتك بالزيارة، سرّحني نروّح، يبقى وليدك بالسلامة."
ثم يعودون عن طريق أولاد حناش، إلى مسقط رأسهم، رأس الوادي، ولست أدري كم تستغرق الرحلة؟ وماذا يصنعون بالجديان؟
نورالدين خبابه – 14 جوان 2020
ملاحظة: يجب التفريق بين أولاد عبد الواحد ومجموعة أخرى تُسمّى "عمر".
إذا كان هناك إخوة من أولاد عبد الواحد وأحفادهم بإمكانهم أن يُفيدوني في الموضوع، فأنا مستعد لمناقشتهم والاستفادة منهم، لتدوين بعض الأماكن وتصويرها، والبحث في الأصول... للتاريخ.
ويمكن ذلك من خلال التواصل معي عن طريق بريد الموقع أو الفيسبوك.
شكرًا.
إرسال تعليق