قبل أن أتحدث عن الشهيد أحمد المطروش وعن إنجازاته التي حققها في الواقع؛ لابدّ من مقدّمة متواضعة - كأساسٍ لبنيان نتمناهُ، وتمهيدا لسيرة فحلٍ من الفحول، نقدمها كهدية رمزية لمن لا يعرفه من السادة القراء - حتى يأخذوا فكرة عن سيرة الشهيد، والمناخ الذي نشأ فيه، والمنطقة التي صقلت فيها شخصيته واشتدّ فيها عوده بعيدا عن الغلوّ وبعيدا عن التعميم. لأن الحديث عن أحمد المطروش، هو حديث عن إرادة تكسرت أمامها قوة محتلّ غاشم وتهشمت... محتلّ جعل من الجزائر إحدى مقاطعاته لما بعد البحر - وبوابة لافريقيا - تلك القارة السمراء التي تعيش أوربا من خيراتها وكنوزها ومعادنها إلى اليوم... بينما شعوبها يُقطعها الفقر والاحباط والحرمان- إلى درجة أن شبابها يقطعون البحار بحثا عن لقمة العيش وعن مستقبل منشود.
وإن جَهِل الناس إسم أحمد المطروش من قبل، فالعيب لم يكن في أهله الموجوعين الذين افتقدوه وافتقدوا عددا من الشهداء خلال الثورة التحريرية ومنهم أخوه وأبناء عمومته من عائلة بن درميع، ولا في ابنه الوحيد ناصر الذي ولد في ظروف استثنائية في أولاد تبان... بل في إعلام مستلب فكريا يُروّج للتفاهات... ولبطولات المواقع الإقتراضية فيما يتجاهل بطولات الواقع. والعيب في طلبة التاريخ الذين لم ينقبوا عن سيرة ريح عاصف من أبناء المنطقة. والعيب في أساتذة التاريخ من أهل المنطقة الذين يدرّسون طلبتهم عن النملة في غابة الأمازون كيف تبتسم وبطولات القردة... فيما يتجاهلون سيرة بطل حقيقي يشهد له العدوّ قبل الصديق... والعيب في المؤرخين، في منظمة المجاهدين وأبناء الشهداء لأنهم لم يدوّنوا سير الرّجال وتراجمهم حتى تطالعها الأجيال، والعيب فيمن يتفاخرون بالشهادات من أهل المنطقة فيما لم يؤلف منهم أحد كتابا يعتد به، يؤرخ لمشاركة المنطقة في حرب التحرير أو فيلم يوثق تاريخا مهمشا - مع أن معارك الغدير طاحنة وضارية... دارات رحاها في الجبال الشامخات الشاهقات.. والوديان، واستشهد المئات وأحرقت المحاصيل الزراعية والبيوت وألقي بعضهم في بئر وهم أحياء.
وإن جَهِل الناس إسم أحمد المطروش من قبل، فالعيب لم يكن في أهله الموجوعين الذين افتقدوه وافتقدوا عددا من الشهداء خلال الثورة التحريرية ومنهم أخوه وأبناء عمومته من عائلة بن درميع، ولا في ابنه الوحيد ناصر الذي ولد في ظروف استثنائية في أولاد تبان... بل في إعلام مستلب فكريا يُروّج للتفاهات... ولبطولات المواقع الإقتراضية فيما يتجاهل بطولات الواقع. والعيب في طلبة التاريخ الذين لم ينقبوا عن سيرة ريح عاصف من أبناء المنطقة. والعيب في أساتذة التاريخ من أهل المنطقة الذين يدرّسون طلبتهم عن النملة في غابة الأمازون كيف تبتسم وبطولات القردة... فيما يتجاهلون سيرة بطل حقيقي يشهد له العدوّ قبل الصديق... والعيب في المؤرخين، في منظمة المجاهدين وأبناء الشهداء لأنهم لم يدوّنوا سير الرّجال وتراجمهم حتى تطالعها الأجيال، والعيب فيمن يتفاخرون بالشهادات من أهل المنطقة فيما لم يؤلف منهم أحد كتابا يعتد به، يؤرخ لمشاركة المنطقة في حرب التحرير أو فيلم يوثق تاريخا مهمشا - مع أن معارك الغدير طاحنة وضارية... دارات رحاها في الجبال الشامخات الشاهقات.. والوديان، واستشهد المئات وأحرقت المحاصيل الزراعية والبيوت وألقي بعضهم في بئر وهم أحياء.
إنه الواقع المطموس ...الذي نحاول أن نميط اللثام على جزء منه...ذاك الذي عايشه أهل الغدير بمشاعرهم وآهاتهم ودموعهم وحسراتهم وهم يفقدون أسدا بعد آخر...رواه لنا آباؤنا والدموع تسكب، وأمهاتنا تقصه علينا قبل النوم...يوم أن كنا محرومين من الهاتف والتلفاز والكهرباء والمذياع . تاريخ: سطرته الجبال والشعاب، والسهول والتلال والحقول، والمخابئ والمراكز. سطرته الدّماء والأوجاع، سطره التعذيب الجسدي والنفسي، سطرته السجون والزنازين في قصر الطير، سطره الحرمان والظلم والقهر.
أحمد المطروش، ذاك الصنديد الذي تخافه الأفاعي ، تخافه الضباع ، وتخافة البغاث البشرية التي استأسدت في غياب الرجال، تخافه العقارب... يخافه العملاء والجواسيس...والوشاة...
كنت قد تحدثت مع ابنه ناصر منذ عدّة سنوات عبر الهاتف وأرسلت له مراسيل.... وكان ذلك قصد أن أخصّ الشهيد البطل برواية تكون في مقام الرجل، و بداية لفيلم أو مسلسل يخلد ليس إسم أحمد المطروش وبطولاته فحسب بل إسم المنطقة التي عانت من ويلات الاحتلال عبر العصور ومن التهميش... ومع ما قدمته من تضحيات مختلفة... لم تنل الغدير المكانة التي تستحقها...كيف لا وهي تحمل آثارا وكنوزا رومانية تحتاج الى دراسة وتنقيب...وهي أقدم من ولايات ناشئة... وعلى ترابها درات معركة قرن الكبش ومعركة تا فرنت ومعارك أخرى...كبد فيها جيش التحرير دروسا لقوات الاحتلال.
أن يحبّك الناس لمالك أو جاهك وسلطانك أو لمصلحة... فذاك شيء إعتاده الخلق خاصة في عصر المادّة والمصالح. وأن يبتعد عن طريقك الانتهازيون والأنذال ويلوون أعناقهم... ويتنكرون لمعروف أسديته لهم وقت الحاجة، أو خدمة قدمتها وهم في حال ضعف...وينسون على السريع فضلك، و كيف كنت تترك أشغالك وعائلتك وأنت تسعى لإرضائهم وخدمتهم على حساب صحتك ووقتك وجيبك وراحتك... وقد كنت وزيرا أو مديرا أو ضابطا أو قاضيا أو سفيرا أو رئيس مصلحة... فذاك شيء يعرفه المجرّبون...
أمّا أن يحبّك الناس لبطولتك وشجاعتك، وشهامتك وأنفتك ونبلك وإيثارك... ودفاعك عن المستضعفين أمام إمبراطورية عمياء مختلة...سفت البلدان سفا...رغم عوزك وفقرك وحرمانك... بل بسكين بوسعادي وتظل الأجيال من بعدك تلهج بذكرك...وتجعل منك القدوة في الشجاعة والإقدام و أنت تسقي الوطن بدمك لتحريره من الغزاة... وتسطر أروع الملاحم. لاتهاب الصعاب ولاتعبأ بالمثبطات وتشق الجبال شقّا بإرادتك في الليالي الحالكات، وتجبر المحتل وأذياله لطأطأة الرؤوس ويجرون معهم الخيبة والكآبة... فذاك شيء لا يقدر عليه أرباع الرجال.
هو إذًا أحمد المطروش بكلّ تواضع، الأسد الهصور، النسر الجارح، الفارس المغوار. ولد أحمد بن درميع المدعو المطروش سنة 1925 ميلادية حسب الحالة المدنية تزامنا مع بداية تحول عالمي لازالت تداعياته سارية الى اليوم، أحدثته الحرب العالمية الأولى وأعقبتها اتفاقيات سايكس بيكو...وفيه بدأ يبزغ نور الحركة الوطنية التي قادها الأمير خالد و جمعية العلماء وحزب الشعب فيما بعد...وكان من بين أعضاء جمعية العلماء في المنطقة الشيخ محمد خبابه المدعو بالي وأبناءه الشهيدين محمود وعبد الحميد، والمجاهد عبد الله بلكعلول وآخرين سنعود اليهم بالأسماء والتفاصيل في موضوع منفصل من طلبة بن باديس ...والسيد رابح مروش الصديق الحميم لمحمد بوضياف...وشخصيات أخرى.
أبوه هو السيد محمد بن درميع وهو من أصول عربية. نشأ أحمد بن دريميع المدعو المطروش كما نشأ أغلب أقرانه في عائلات بسيطة وفقيرة...يعيشون من الفلاحة ويرعون المواشي ...وبدأ يكبر ومعه يكبر الأمل وتقوى العزيمة...إلى أن أصبح شابا. لم يدرس أحمد المطروش في المعاهد ولا في الجامعات، بل درس في جامعة الحياة...حيث الطبيعة والهواء النقي. كان يرى بعينه المجردة الأشياء على سريرتها... وكيف يستولي الكولون على أراضي المواطنين ومحاصيلهم الزراعية وكيف يستخدمونهم وكيف يستعبدونهم ويحتقرونهم...فتولدت عنده روح الحمية والانتقام لابناء الشعب المقهورين.
أحبّه أهل الغدير وغيلاسة وأولاد حناش وأولاد تبان ورأس الوادي وعين ولمان وعين أزال، في برج بوعرريج وفي سطيف وحتى في المسيلة، وأين خاض معاركه ...أحبته البوادي، أحبته الجبال، أحبته الأعالي، أحبه الشيوخ والأطفال، وفوق كل هذا أحب هوالجزائر... وفداها بروحه. أحبته البندقية، أحبته القشابية الملونة، أحبّه السكين البوسعادي ...أحبته العصا وهي تطرق رؤوس من عصى، أحبته المزّامنة والرخساس، أحبه اللبن الصافي... والحبّ لا يأتي بالإكراه يا سادة !
كيف لا يحبونه وهو الذي كسر خيشوم المحتل في المناطق الوعرة التي كانت تقذفها الطائرات بالحمم والغازات، و تحرق الحقول وتدكّ البيوت؟ يحبونه بعملياته المباغتة التي لم تنتبه لها رادارات المحتل، ولم يسمع بها عسسه الذين كانوا يتبوّلون عند مروره. يحبونه لأنه دافع عن سيادة الوطن المهدورة باختصار، وأراد العزة للجزائر ولشعبها أو الشهادة..فنالها.
أحمد المطروش: إذا سمعت صوته النساء تحجّبن لرهبته، وإذا سمع صوته الأطفال ناموا...فقد كانت النساء تخوفن به أطفالهن عندما يعصيهن. "أسكت لا يجيك أحمد المطروش". هو ذاك أحمد المطروش: إبن البادية. والبادية عرين الرجولة والصمود، عرين الشهامة والكرامة... فيها صقلت شخصيته ومن هوائها تسرب خياله...ولد في قرية أولاد سيدي سعيد، تلك القرية التي أبت الاّ أن تكون في أعالي دائرة برج الغدير جنوبا، وكانت ولاتزال شامخة شموخ أحمد المطروش وأبطال المنطقة... تقابلها قرية الدشرة وجبالها الشاهقات في الجهة الشرقية...وأعلاها القليعة التي انتصبت كحصن منيع يعبر عن رسو وجذورالغدير.
وقد تميز أحمد المطروش في خلقته عن باقي الخلق، ليس بسمرته ولا بطوله وعرضه ولا بشعره ووسامته... بل بعين خضراء وأخرى سوداء...ويا لها من علامة فارقة...عندما تلتق في جسم رجل ليس ككلّ الرجال، وكأنها علامة تميز بين الجنة ذات اللون الأخضر وجهنم ذات السواد الداكن؟
لم يدخل جامعة سان سير الحربية في فرنسا التي درس فيها بعض الضباط الذين رهنوا مصير الجزائر فيما بعد...ولم يشتر شهادة عليا كماهم أبناء بعض المسؤولين ... لكنه كان جامعة متنقلة تحمل علوم شتّى. تبدأ بالارادة والعزم والتوكل على الله ، ثم التخطيط والاستراتيجية ... وتنته بالتجسيد على أرض الميدان، تجسيد يربك العدو ويفاجئه في عقر داره ويسرّ الصديق... فتجمع تجربته بين القول والفعل وبين الارادة والعزم وتترك التاريخ لأهله يدونون مايشاؤون... وقد اصطفاه الله أن يكون من القلة النادرة التي يساوي فيها رجلا ألفا ...حيث واجه دولة بحجم فرنسا. تلك الامبراطورية التي كانت تحتل دولا وشعوبا وبحماية ومساعدة من الحلف الأطلسي... ويحقق حلم الأجيال التي لطالما حلمت باستقلال الجزائر.
وكغالبية أبناء الغدير كان يرعى الأغنام ويعمل أحيانا في البناء أو في الفلاحة وتنقل من مقر سكناه الى العاصمة...ومن الغرابة أنه كان يركب القطار دون أن يقوم بتسديد تذكرة السفر وهي اشارة لعدم الاعتراف بالمحتل وبنظامه...وكان يصعد أحيانا فوق القطار ...في حركة فاقت المألوف.
لقبُ المطروش الذي لازمه في حياته وبعد استشهاده، أطلق عليه وصفا لسلوكه الذي كان يتخذه كتمويه من جهة ... وليس لأنه كان معتوها أو مختلا عقليا... ومن جهة أخرى - كان رجلا مقداما لايهاب الصعاب ومن كثرة تحديه ومغامراته حمل ذلك اللقب ...و كان اللقب مساعدا له في الواقع. يختار حركات تدفع المحتل للإعتقاد بأن أحمد مرفوع عنه القلم "مطروش" في لباسه الرث المتسخ وحركاته وسكناته وطريقة تحديه وإتقانه لفن التظاهر والتمثيل لابعاد الشبهة ...وفي لحظة الغفوة يقوم أحمد بعمليته التي تقصم ظهر المحتل وتوجعه وتجعله في حالة ضياع وتيهان...وكم كان سيفا على الخونة والمتواطئين الذين أرادوا الذلة لشعب أراد العزة...
قبل أن ينضم الى جيش التحرير كان في الغالب من يريد الانضمام لابد عليه أن يقوم بعملية فدائية ويعول على سلاحه...لأن الجيش لم يكن جيشا نظاميا...ولم تكن هناك ثكنات كما هي الجيوش النظامية العصرية بل كان جيشا مقاتلا في ساحات الوغى...والولايات لها شبه استقلال ذاتي.اختار أحمد المطروش سرقة كميات من البارود الذي كان يستخدم للمتفجرات - وتكسير الصخور لتوسعة الطريق بين برج الغدير وأولاد حناش... وكذا بين الحضنة والغدير ...ومن سوء حظه قبض عليه بعد أن نجح في المرات الأولى بإخراج كميات من المتفجرات... وكاد أن يعدم لولا فضل الله الذي أنجاه. فحسب شهادات من عايشوه في المنطقة...كانت قوات الاحتلال تنوي إعدامه...في بلدية الغدير لكنه أفلت منها بأعجوبة بعد أن فر من المكان الذي كان محتجزا فيه ...ومن ثمة التحق مع أخيه وابن عمه بإحدى الكتائب المحصنة في جبال أولاد تبان لقيادة الولاية الأولى شهر جوان سنة 1956. وكان من جنده في صفوف جيش التحرير ابن عمه والمجاهد عمار دهان.
بداية أعماله العسكرية كانت في برج الغدير، ومن ثم انتقل الى أولاد تبان وسطيف...كان يهوى العمل الفردي للإفلات من مراقبة العدوّ ولأنه صاحب مبادرة ويصعب عليه العمل الجماعي، ونظرا لتعقيدات أمنية وعسكرية وكذا تضاريس الناحية...و من شدة تعطشه للحرية والمغامرة كان... خارج عن القاعدة...حيث قام مسؤولوا الناحية بعد اقتناعهم بقيامه بعمليات نوعية لايقدر عليها الاّ الجن أحمد المطروش، أن يعطوه رخصة لم تعطى لأحد غيره...وهي أن يتنقل بحرية فكان مستقلا...يبادر متى شاء وأينما شاء ووقتما شاء وهذا باتفاق مع المجموعة من خلال تقسيم الأدوار وكان مختصا في تصفية الخونة بسكينه البوسعادي.
كان أحمد المطروش يتظاهر بأنه متسول تارة ومجنون تارة أخرى في نواحي سطيف ووسط المدينة والأماكن التي يقوم فيها بالعمليات الفدائية... يرتدي أثوابا بالية وبرنوسا ممزقا ومتسخا يحمل رائحة ولعابه يسيل ...وحركات بهلوانية... بغية إبعاد عين المراقبة عليه وحتى يفتك بالعدو، ويحمل معه سكينه البوسعادي مع بعض القنابل اليدوية ورشاش.
من عملياته المسجلة والمنسوبة إليه: الاستيلاء على المتفجرات بأولاد حناش. إلقاء قنبلة في حانة السيدة قرينة ببرج الغدير. تصفية مجموعة من الخونة في سطيف، رأس الوادي، أولاد تبان، عين أزال، عين الحجر، عين ولمان.الهجوم على مركز للخونة بأولاد خلوف. قتل مجموعة من الكولون، تهريب مجموعة من البقر والعجول والمواشي في عدد من الأماكن وتسليم جزء منها للمواطنين وكذا ذبحع البقية للمجاهدين في أولاد سيدي منصور وأود حناش وأولاد تبان . قيامه بعشر عمليات مهر لزوجته، تهريب زوجته وابنه من المعتقل في عملية فدائية، هروبه من سيارة جيب قبل محاولة إعدامه...هروبه من السجن، وعدد آخر من العمليات بالشهود والأسماء ...سنعود اليها بالتفاصيل في رواية خاصة تحمل إسمه أتحدث فيها عن تاريخ منطقة الغدير..ترقبوها خلال العام القادم بحول الله.
نورالدين خبابه 07 جويلية 2020
إرسال تعليق