لم يكن مجرد لقاء عابر، بل كان لحظة مكثفة التهم فيها الزمن 24 سنة من الغربة، وأعادها إليّ في ثوانٍ معدودة. لأول مرة، ألتقي بابنة أخي التي تركتها رضيعة لم تتجاوز الشهرين، وها هي اليوم أمامي، شابة أنهت دراستها الجامعية في الطب، متزوجة، وفي عينيها ملامح لم أعد أميزها بين الماضي والحاضر.
شعرت وكأنني أقلب ألبومًا قديمًا، لكن بدلاً من صور متتالية، وجدت صورتين فقط: الأولى لطفلة نائمة في سريرها، والثانية لامرأة تقف أمامي بثقة، تحمل شهادة طبية وحياة كاملة لم أكن جزءًا منها. كيف يمكن للزمن أن يكون بهذه القسوة، أو ربما بهذه السحرية، حيث يختصر ربع قرن في لحظة خاطفة؟
إنه شعور متداخل بين الفرح والفقد، بين الذهول والحنين، وكأنني كنت أعيش في زمن متجمد بينما مضت الحياة لتكتب فصولها دوني. لم يكن اللقاء مجرد اجتماع عائلي، بل كان صدمة وجودية، مواجهة مباشرة مع الغربة وآثارها، مع السنوات التي ضاعت بين الأمس واليوم.
لكن ابنة أخي لم تكن الوحيدة التي غابت عني ثم عادت إلى المشهد، بل هناك وجوه كثيرة لم تعد، ولن تعود أبدًا… أبي وأمي رحلا دون أن أتمكن من إلقاء نظرة الوداع، دون أن أحضر جنازتيهما، أو أقف عند قبريهما لأقرأ الفاتحة كما يفعل الأبناء الصالحون. رحلا وأنا بعيد، في أرض أخرى، في حياة أخرى، وكأنني لم أكن ابنهما ذات يوم.
من كانوا سندًا في طفولتي، بعضهم غادر الحياة بصمت. أبناء عمومتي، وأبناء أخواتي وإخواني كبروا وتزوجوا، بعضهم رحل دون أن أراهم في كِبَرهم، لم أشهد لحظاتهم الأخيرة، ولم أشارك في جنازاتهم، ولم أبكِ معهم كما يفعل الأهل حين يودعون أحباءهم. أصهاري، بعضهم تزوج، وبعضهم رحل، وكأن القدر خطّ حكاياتهم بعيدًا عني، دون أن يمنحني حتى فرصة أن أكون شاهدًا على أفراحهم أو أتراحهم.
وفي المقابل، هناك من ولدوا ولم أعرفهم إلا بالأسماء والصور. أبناء إخوتي وأخواتي الذين لم أحملهم بين ذراعي كما يفعل الأعمام والأخوال، لم أرَ خطواتهم الأولى، ولم أسمع نطقهم للكلمات الأولى، ولم أشهد أعراسهم، ولم أكن هناك حين احتاجوا إلى كلمة مني أو حضن دافئ يربطهم بي. كأن الزمن قرر أن يختصر كل تلك اللحظات في قصاصات ورقية تصلني من حين لآخر، أو في مكالمات هاتفية لا تحمل دفء اللقاء الحقيقي.
حين رأيت ابنة أخي اليوم، لم أستطع أن أقرر أي صورة تثبت في ذاكرتي: أتلك الطفلة التي ودعتها ذات صباح بعيد، أم هذه الطبيبة التي تقف أمامي الآن؟ كأنني عبرت بوابة زمنية على شاكلة رحلة قادها عفريت من الجن دون أن أشعر، لأجد نفسي وجهًا لوجه مع ما فاتني، ومع ما لن يعود أبدًا.
دموعي لم تكن مجرد تعبير عن الشوق، بل كانت اعترافًا ضمنيًا بأن الغربة لا تأخذ منا الأماكن فقط، بل تسرق منا الزمن، اللحظات، والتفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة. لكنها في المقابل تعلّمنا أن نقدّر ما تبقى، أن نمسك ولو بخيط صغير من الحاضر كي لا يضيع المستقبل كما ضاع الماضي.
أثناء حديثي معها، بدأت ألملم شتات السنوات، وأحاول كسر الجليد الذي تراكم على ذاكرتي، كي أعيد وصل الحاضر بالماضي، وكأنني أكتب من جديد قصة شاهد على عصر توقفت عند فصلها الأول. وبعد ساعات من الحديث، أدركت أنني بحاجة إلى "تحديث" لنفسي، تمامًا كما يتم تحديث تطبيق ظل معطلاً لفترة طويلة، ليعود إلى العمل في سياق جديد، وبإصدار مختلف.
هذا اللقاء لم يكن مجرد مصادفة، بل درس عميق بأن الزمن لا ينتظر أحدًا، لكنه يمنحنا أحيانًا لحظات تعويضية، كأنها هدايا متأخرة، لنفهم أننا رغم كل ما فقدناه، ما زلنا قادرين على الإمساك ببعض خيوط الحاضر، حتى لو كانت تلك الخيوط قد امتدت على مدار 24 سنة من الغياب.
نورالدين خبابه 28 فيفري 2025
إرسال تعليق