متى ينتقل لمّ الشمل في الجزائر من الوعود إلى الوفاء بالعهود؟


ظلت قضية "لمّ الشمل" في الجزائر لسنواتٍ طويلة موضوعًا حاضرًا في الخطابات السياسية، وعبارةً تتكرر في المناسبات الوطنية والمحافل الرسمية، وكلما مرّت سُحب أو لاحت في الأفق بوادر عواصف، أو اشتعلت أزمة دولية وحروب انعكست تداعياتها على المستضعفين، دون أن يلمس الجزائريون حقيقتها على أرض الواقع بشكلٍ ملموس وكافٍ.

ورغم إيمان الجميع بضرورة الوحدة والتضامن انطلاقًا من الهمّ المشترك، إلّا أنّ الفجوة بين الوعود والتطبيق العملي بقيت واسعة، ما يطرح أسئلة جوهرية: متى تصبح هذه القيمة الوطنية واقعًا ملموسًا في حياة الجزائريين؟ ومتى تنتقل من خانة الشعارات المؤقتة والموسمية إلى مرحلة الفعل الجاد؟

إنّ لمّ الشمل ليس قرارًا سياسيًا عابرًا، بل مسار طويل يحتاج إلى إرادة حقيقية، ووفاءٍ بالعهود، ومقاربة مجتمعية شاملة، تبدأ بحوارٍ صادق وتنتهي بمصالحة شاملة تعالج جذور الصراعات على السلطة والانقسام، وتُداوي آثار المأساة التي كادت أن تدمر أسس الدولة الجزائرية. فهل حان الوقت فعلًا لتجاوز مرحلة الكلام إلى مرحلة الفعل، وللانتقال من الشعارات إلى تجسيد مشروع الوحدة الوطنية على أرض الواقع، بشكلٍ جدّي ومستدام، عربونًا لوفاء من ضحّوا ولأجل مستقبل الأجيال القادمة؟

إنّ لمّ الشمل ليس مجرد شعار يُرفع في المناسبات الوطنية، ولا قرارًا سياسيًا يُتخذ في لحظة عاطفية، ثم يتلاشى أثره بمجرد انتهاء الحدث الذي استدعاه. بل هو ثقافة يجب أن تتجذر في وعي المجتمع عبر الإقناع لا الإكراه، ونمط تفكير يتناقله الأجيال بالتربية والتنشئة، ليصبح جزءًا راسخًا من هوية الوطن، وعنوانًا لرؤيته نحو المستقبل، وضمانة لوحدته واستقراره.

عاشت الجزائر مراحل عصيبة من التفرقة والخلافات، وعانت بشدة من آثار المأساة التي عصفت بها وأثّرت على مختلف جوانب الحياة، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. وقد جاءت أزمة فيروس كورونا لتكشف للجزائريين، كما لغيرهم، أنّ الاعتماد على الجهات الخارجية، بعيدًا عن تحقيق الاكتفاء الذاتي، يهدّد سيادة الوطن واستقراره. من هنا أصبح لمّ الشمل ضرورة حتمية لحماية مستقبل الجزائر، لكنه في الوقت ذاته مشروعٌ طويل الأمد، لا يمكن قطف ثماره سريعًا، بل يحتاج إلى عمل دؤوب، ورؤية وطنية شاملة، وإرادةٍ صادقةٍ لترسيخ ثقافة الوحدة والتضامن وتحقيق الاكتفاء الذاتي، بعيدًا عن الشعارات العابرة والوعود المؤقتة.

إنّ لمّ الشمل في الجزائر مشروعٌ يجب أن يُبنى على الحوار الصادق وقبول الآخر، وعلى قيم التسامح بعيدًا عن المجاملات الشكلية. وهو مسارٌ يبدأ من الاعتراف بشجاعة بأخطاء الماضي، ويقوم على مصالحةٍ حقيقية شاملة، تعيد بناء الثقة بين أبناء الوطن الواحد. كما يتطلب هذا المشروع أكثر من مجرد مبادرات ظرفية؛ فهو يحتاج إلى برامج تربوية وثقافية عميقة تقطع الطريق أمام ثقافة توريث الأحقاد والضغائن، وتُرسّخ بدلًا منها قيم التضامن والتسامح والتعايش وقبول الاختلاف، ما يهيئ الظروف لجيلٍ جديد متحررٍ من أعباء الماضي، قادر على الحوار الصادق وقبول الآخر.

إنّ لمّ الشمل وتعزيز قيم الوحدة لا يعني أبدًا إلغاء الاختلافات، بل يعني إدارة التنوع بشكل حضاري والاستفادة من التعددية الثقافية والفكرية التي تُعدّ ثراءً تحسد عليه الجزائر. ومن هنا تأتي أهمية إشراك جميع فئات المجتمع في حوارٍ بنّاء ومسؤول، يُعالج أسباب التفرقة من جذورها، ويُهيئ الأرضية المشتركة لثقافة جامعة تقوم على الإيمان بالوطن الواحد والمصير المشترك.

وعليه، فإنّ لمّ الشمل الحقيقي هو الذي يتحوّل إلى ثقافة يومية يعيشها الجزائريون في الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والجامعة، وعلى القنوات الفضائية، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي كل فضاءات المجتمع. وعندما يتحقق ذلك، ستصبح الجزائر قوية بوحدتها، قادرةً على مواجهة التحديات والصعاب، ومواصلة مسيرتها نحو مستقبل يليق بتضحيات الأجيال السابقة، ويحقّق أحلام الأجيال القادمة التي تنتظر بشوق وأمل رؤية جزائر جديدة.

بعيدًا عن أيّ إقصاءٍ أو تهميش، ولكي يتحقق هذا المشروع الوطني، لا بدّ من تبنّي خطابٍ مسؤول، وخلق بيئةٍ تُشجّع على النقد البنّاء والحوار الهادئ، بعيدًا عن لغة الجهوية والتخوين والصراع الذي لا يُنتج سوى مزيدٍ من الانقسام. كما يتطلب ذلك الابتعاد عن ثقافة الغالب والمغلوب، وشطب عبارات التحقير والازدراء من قاموس الحوار بين أبناء الوطن الواحد.

إن لمّ الشمل كهدف نبيل يجب أن ينطلق من إرادة شعبية صادقة، ورغبة حقيقية في تجاوز الأحقاد، وإرساء ثقافة جديدة أساسها الحوار والتعاون والاحترام المتبادل. هذا يتطلب كذلك دورًا فعالًا من الإعلام في نشر هذه الثقافة وترسيخها، ودورًا إيجابيًا من المثقفين ورجال الدين في تأصيل القيم التي تدعو إلى التآخي والمحبة والسلام الاجتماعي.

وفي النهاية، إن الجزائر القوية الموحدة التي نطمح إليها لن تتحقق بقرار رئاسي أو بيان سياسي، بل عبر مسار طويل يحتاج إلى الصبر والإرادة الصلبة والعمل المتواصل، لإعادة بناء العلاقات الاجتماعية على أسس من الثقة والاحترام، وصياغة مستقبل يجتمع فيه كل الجزائريين تحت سقف الوطن الواحد، وطن يسع الجميع دون استثناء، وينعم فيه كل فرد بحقوقه كاملة، ليشارك بفاعلية في نهضة البلاد وتطورها.


نورالدين خبابه 11 مارس 2025

Libellés :

إرسال تعليق

[facebook]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget