عودة الى الدشرة والمسجد العتيق وأجواء رمضان خلال السبعينيات !

الدشرة والمسجد العتيق وأجواء رمضان خلال السبعينيات ولاية برج بوعرريج الجزائر

كم هي ذاكرة الإنسان مليئة بالأحداث والذكريات...؟ وكم هو مفيد الغوص في بعض التفاصيل، وإخراج جزء منها إلى السطح، وفتح الملفات التي أكلها الصدأ، لا سيما إذا كانت تذكرنا بأجواء سعيدة... وأناس نعزهم ونفتقدهم.

وكم هو مستحسن اليوم، في ظل الحجر الصحي وعهد كورونا... تخيّل تلك المشاهد، ونفخ الروح فيها من جديد، وعرضها، سواء عبر الصور أو سماع تلك الأصوات وهي تطرق الآذان؟ والعمل على تراكمها لإعادة تلك الأوقات المفعمة بالمحبة والأخوة... والهروب من الواقع المليء بالخيبات.

وكم هي العودة إلى تلك الفطرة، والبساطة، والتواضع... مريحة، حيث البراءة والصفاء... فلا تصنّع ولا مراءاة... وبعيدًا عن عفن السياسة، والمقالب، والتكالب على الدنيا الفانية، والغدر...؟

منذ أن عرفت النور... زرت، في الشرق كما في الغرب، وداخل الوطن كما في المهجر، عددًا من المساجد والمصليات... وعرفت بعض أكبر الفنادق في الجزائر في الثمانينيات. لم أسمع في حياتي التسبيحات، والتهليلات، والتكبيرات، التي سأذكرها بعد حين، وبلحنها الخاص، والتي كنت أحفظها عن ظهر قلب، وقد سمعتها من مشايخ القرية مباشرة، وأنا طفل صغير، وفي بداية شبابي. ولم أعش تلك الأيام، ولم أذق طعم حلاوتها، ونكهة طعامها البسيط، مع أن المساجد كلها لله، وأرضه واسعة... ومع أنني أعيش في قلب أوروبا.

كان المسجد العتيق في قريتنا "الدشرة" يضيء بوجوه متنورة، والصفوف الأمامية في الغالب محجوزة لحفظة القرآن، فلا يجرؤ أحدنا على التقدم في الصفوف، توقيرًا لمن هم أكبر منا سنًا ودراية. وكان لباسهم: برانيس بيضاء منسوجة من الصوف، وعمائم بيض "الشاش"... وكان بعض المشايخ يأتون إلى الدشرة من قرى مجاورة لحضور تلك الأجواء.

كنا نشم رائحة رمضان، مثلما تُشم الأشياء لمن ما زال يحتفظ بحاسة الشم. وعند مدخل القرية، تقابلك رائحة المطلوع، التي تصعد عادة بعد العصر، وكانت النسوة يطْهينه كل مساء، في نفس التوقيت، على الطواجين المصنوعة باليد من الطين، قبل أن يتم إحماؤها. يتلوها شربة الفريك، الذي تحضّره النسوة أشهرًا قبل الموعد، لا سيما إذا لم يصادف رمضان شهر الحصاد.

وكانت بنات القرية يخرجن أمام البيوت، ويلعبن مع بعض، ويتنافسن مع قريناتهن على ألعاب مختلفة، ومنها الغميضة... وأحيانًا يستفززن بعضهن لدفع بعضهن للخروج، بعبارات في مجموعات، حيث يرددن: "يا عيبي ما خرجتش، يا عيبي راهي تكرد"، أي: إنها فضّلت لعق الصحون، ولم تخرج للعب معنا! يلعبن على ضوء النجوم، وعلى ضوء القمر... وكم كانت تلك الأجواء ساحرة، خاصة إذا صادفت وقت التين والبطيخ... ويا خسارة من أتاه النعاس، فنام ولم يتناول المسفوف بالزبيب والعنب الأسود أو الدلاع. ويرددن: "يا قمر يا عالي، أوصلني لأخوالي..."، إلخ.

كانت صلاة التراويح على ضوء الفنار... وأحيانًا على الشموع... في المسجد القديم، خلال السبعينيات، حيث لا كهرباء، ولا غاز، ولا طريق معبدة... إلخ.

كان للمسجد بابان قبل أن يتم تجديده، أحدهما على اليمين، والآخر على اليسار، ولونهما أخضر فاتح، باتجاه القبلة. سقفه مغطى بعسج النخيل، تشده قناطيس جِيء بها من غابات مجاورة، كما روى الوالد عن من سبقوه. يتوسطه سحن، يأتي مباشرة بعد الحائط، به أقواس... وبجانب الباب الخارجي نخلة تم تحويلها فيما بعد، ورفضت أن تموت، وخلفه ممر. وتقابل السحن، باتجاه القبلة، عشة الشيخ الطيب، مؤذن المسجد، يخزّن فيها بعض الحلويات "القاطو"، التي تأتي كصدقة، يعطيها للأطفال لتحبيبهم في المسجد. يتناوب على الأذان الشيخ الطيب، مع الشيخ تهامي المسعود، صاحب الصوت الرقيق...

كان لي الشرف أن أذّنت في المسجد في السبعينيات، وأنا لم أبلغ الحُلم بعد، مع حضرة الشيخ الطيب، وأول من شجعني هو ابن عمتي، إمام المسجد، سي الطاهر. كنا نؤذّن فوق مكان ملتصق بحائط غرفتين، كان يشرف على صيانتهما الشيخ الطيب. وبجانب زاوية الغرفتين مهراس كبير من الحجر، وباب في الجهة الجنوبية. وكان بجانب المسجد، باتجاه الطريق من الجهة العلوية، خزان للماء، وفوقه قفل مصنوع من الأسمنت... كنا نملأ الخزان عن طريق براميل ماء، نجلبها على متن الدواب... من "العنصر"، القريب من المدرسة الابتدائية، التي تحولت فيما بعد إلى متوسطة، وتحمل الآن اسم المجاهد عبد الله بلكعلول.

حملت البطارية على الدابة مرة إلى برج الغدير، على بعد 3 كلم، كي أشحنها... وأنا أطير فرحًا... حتى أستطيع أن أُشغّل المكبّر...
كنا نقوم بغسل قاعة المسجد، ونفض الأفرشة من الغبار، قبل أيام من رمضان... ومن بين التسبيحات التي كانوا يرددونها:
تسبيحات قبل صلاة التراويح، وهي:

الأولى:

اللهم صلِّ وسلم وبارك على النبي محمد وآل محمد، سيد الرجال المفضل، يا بحر الكمال والجمال، يا نبينا.

وتسبيحات ربما سنعود إليها في مواضيع أخرى.

أثناء صلاة التراويح، بين الركعات:

سبحان الملك القدوس (3 مرات)،
اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه... عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون.

بعد نهاية صلاة التراويح:

سبحان الملك القدوس (3 مرات) - سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
تقبل بفضلك أعمالنا، والطف بعبدك يا مولانا، واختم بخيرك آجالنا، بجاه محمد سيدنا (3 مرات).
ربنا تقبل منّا الصلاة والصيام، واحشرنا في زمرة خير الأنام (3 مرات)، بجاه محمد عليه الصلاة والسلام.

اللهم أمتنا مسلمين، محسنين طائعين، لا مبدّلين ولا مغيّرين، لا فاتنين ولا مفتونين، يا من وفق أهل الخير للخير وأعانهم عليه، وفقنا يا مولانا للخير، وأعنّا عليه (3 مرات).
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
اللهم لك الحمد (3 مرات)،
اللهم لك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبالكعبة قبلةً، وبالقرآن إمامًا وحكمًا، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيئًا رسولًا.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (3 مرات).

اللهم صلِّ وسلِّم على المصطفى، شفيع الخلائق، وبحر الوفاء.
اللهم صلِّ وسلِّم على الهاشمي، شفيع الخلائق، أبو القاسم.
اللهم صلِّ وسلِّم على أحمدا، شفيع الخلائق، وبحر الندى...
اللهم صلِّ وسلم عليه كما عدد النجوم في جوف السماء.
صلاة تدوم وتبلغ إليه، مرور الليالي وطول الدوام، والصادق محمد عليه السلام (3 مرات).

حبيبي، حبيبي، لا غير حبيب، إذا ضاق حالي، فرج الله قريب (3 مرات).
شريفٌ شريفٌ، شرف به أهل الصفا، ومكة، وزمزم، والبيت الحرام، والصادق محمد عليه السلام (3 مرات).

أجب دعاءنا يا مولانا، أجب دعاءنا وارحمنا، أجب دعاءنا يا مولانا، أجب دعاءنا واهدنا، أجب دعاءنا يا مولانا، أجب دعاءنا واستُرنا...
أجب دعاءنا يا مولانا، أجب دعاءنا واغفر لنا...
يا ذا الجلال والإكرام، اختم لنا بالإسلام (3 مرات).
آمين، آمين، آمين، يا رب العالمين (3 مرات)، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


في الأيام الأخيرة من رمضان، يكثرون من التهجد، والنوافل، والذكر... ويتحرّون ليلة القدر... فأذكر أنهم، وقبل صلاة الفجر، وتحت نجوم السماء، يجلسون خارج المسجد، ويذكرون الله كثيرًا، ويتأملون في خلق السماوات. ويخرج حفظة القرآن، رافعين الألواح المزوقة، وفيها أشكال مختلفة، أبرزها الجمل... وينتقلون من بيت إلى آخر، وهم يرددون: "بيضة بيضة للكتابة، يرحم والديكم..."، فيجمعون سلة أو اثنتين من البيض، ويعودون بهما إلى الجامع. ثم يرددون: "سيدي سرّحنا، وفي الألواح زوّقنا..."، إلخ.

ولما يقرر الشيخ تسريحهم، يرددون، وبلحن جماعي، قبل أن يفترقوا:
"اللهم اغفر للشيخ، ولوالديه، ولمن علّمنا، ولجميع المسلمين كافة.
اللهم اسقنا واسقه، من حوض النبي صلوات الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا."

وعشية ليلة الشك، من الشباب من يستعمل شاشًا، ومنهم من يستعمل عظم كتف الشاة، اتقاءً من أشعة الشمس، لتحرّي هلال شوال...

وبعد أن تتأكد رؤية الهلال، يبيت الناس في المسجد، جماعات جماعات، يحيون ليلة العيد بقراءة القرآن. وقبل صلاة الفجر، يأتي أهل القرية بالحلويات المختلفة، وخبز الدار، ويتبادلون الأطباق، ثم يعودون إلى بيوتهم لتحضير أنفسهم لصلاة العيد. ومن حين لآخر، تسمع المفرقعات مع صياح كباش العيد... ويشتري الأولياء لأولادهم مسدسات بها قراطيس من بلاستيك. ويشرع الناس في التسبيح والتكبير يوم العيد.

التسبيح الأول:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.ولا حول ولا قوة إلا بالله.


التسبيح الثاني:
سبحانك، سبحانك، ربي ما أعظم شأنك، بفضلك وإحسانك، نجّنا من نارك.

وعند الانتهاء من صلاة العيد، كانوا يتسابقون إلى الإمام لتقبيله.

إذا كان عيد الفطر، فالأطفال ينتقلون من بيت إلى آخر، يقبّلون الكبار، ونسمي العادة "المغافرة"، كلمة مشتقة من المغفرة... ونفس الشيء للكبار... وعادةً يغيّر الناس الطريق، لالتقاء أكبر عدد ممكن من الناس، بغية كسب الأجر.

وإذا كان عيد الأضحى، فنذهب لرؤية إمام القرية في البيت القديم للشيخ الفقيه أحمد خبابه... وهناك "عين" بالمراح، حيث تتمّ التضحية، ومنها ننقل الخبر للآباء لكي يضحّوا... ويوم العيد، تقوم الوالدة بطهي الزعتر، ترفقه بحلوى "الغريبية"... وعادةً، تقوم النسوة بطهي رأس كبش العيد... إلخ.

نورالدين خبابه – 26 أفريل 2020 – فرنسا
Libellés :

إرسال تعليق

[facebook]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget