شهادة ناصر محمد بوضياف حول والده واغتياله!

شهادة ناصر محمد بوضياف عن والده الرئيس المغتال: من طفولته بالقصبة إلى عودته من المغرب، وكواليس استقدامه ثم اغتياله وموقفه من الحقيقة.


اسمي ناصر محمد بوضياف، وُلدت في القصبة، في الشارع الثالث قرب «سوستارا»، سنة 1955. حينها كان أبي قد غادر الجزائر منذ 1954، فالتحقتُ بالحياة في غيابه، وحملتُ لقبه قبل أن أراه. عشنا بعد ذلك في «القصبة» إلى غاية 1964، ثم انتقلت عائلتنا للسكن في أحياء أخرى بالعاصمة. يمكن القول إنني ابن العاصمة، تربّيت في شوارعها وأحيائها، بينما كان أبي بعيدًا عنّا، منشغلًا بقضية أكبر: قضية الجزائر.

في طفولتي، كانت أمي تحكي لي عن رجالٍ يزورون البيت، عن مجاهدين ورفاق سلاح لأبي. من بينهم كان الشهيد بن مهيدي، رحمه الله، الذي كان يأتي مع والدي، يفطر عندنا، يتعشّى ويصلّي. كثير من الرجال مرّوا ببيتنا في «القصبة»، كانوا يحملون همّ الثورة، وأسماؤهم اليوم جزء من تاريخ البلاد.

أبي غادر سنة 1954، ولم أره طوال فترة الثورة. لقائي الأول الحقيقي به كان بعد الاستقلال، في سنة 1962. لكن حتى بعد الاستقلال بقيت الصراعات، ولم يُسمح لكل رموز الثورة بأن يأخذوا مكانتهم الطبيعية. اختُطف أبي في فترة  على يد شرطة بن بلة، وأُرسل إلى الصحراء لمدة 42 يومًا. بعد خروجه، أدرك أن الصراع لم ينتهِ، وأن الثورة التي حلم بها لم تُترجم إلى دولة عادلة، وقال في نفسه إن الموت في الصمت ربما أهون من المشاركة في ظلم جديد.

في 1964، وبعد تهديدات ومحاولة اغتيال فاشلة من طرف الشرطة، اضطرّ أبي إلى الهروب إلى المغرب. هناك عاش حياة متواضعة، بعيدة عن المناصب والأضواء. رفض عروضًا عدّة، وعاش من تجارة بسيطة، يقرأ ويكتب، ويُربّي أبناءه. كان واضحًا في موقفه: لم يكن يبحث عن السلطة، بل عن جزائر حرة، دولة قانون وعدل، كما حلم بها رفقاؤه الشهداء.

في المغرب، عاش  كأبٍ قبل أن يكون رئيسًا أو قائدًا. مع زوجته فتيحة، ربّى أبناءه في جوّ من البساطة والكرامة. ورغم البعد عن الوطن، ظلّ قلبه معلّقًا بالجزائر، يتابع أخبارها ويتألم لانحراف مسارها.

بين 1990 و1992، بدأت الاتصالات تأتيه من الجزائر. من بين من اتصلوا به: علي هارون وعمر بوداود. عرضوا عليه العودة، في ظل أزمة سياسية حادة، وبعد أن دخلت البلاد في نفقٍ خطير مع إلغاء المسار الانتخابي. في البداية رفض، وقال لهم صراحة: «لا أريد السلطة، الجزائر في خطر». لكن بعد إقالة الشاذلي بن جديد، قالوا له إن البلاد على شفا حرب أهلية، وإن حضوره قد يمنع الكارثة. فوافق، لا من أجل الجنرالات، بل من أجل الشعب.

وافق أبي على العودة واضعًا شروطًا واضحة: إصلاح حقيقي، عدالة، وعدم إراقة دماء الجزائريين. أُدخل إلى الجزائر في ظرفٍ وجيز، وأُسكن في فيلا خاصة، وتم تسجيل بيان له ينفي فيه انتماءه لأي حزب، لا للجبهة الإسلامية للإنقاذ ولا للأفافاس. أراد أن يكون رئيسًا لكل الجزائريين، بعيدًا عن الاصطفاف الحزبي.

سريعًا اكتشف أن الذين جاؤوا به لم يكونوا يريدون إصلاحًا حقيقيًا، بل كانوا يبحثون عن واجهة شرعية تنقذ صورتهم أمام الداخل والخارج. أرادوه دميةً، لكنه رفض وقال لهم بوضوح: «أنا لست دمية». وهنا بدأ الصدام مع من أسميهم «العصابة» داخل مؤسسة الجيش والأجهزة: العربي بلخير، إسماعيل العماري، ومحمد مدين المدعو توفيق، وغيرهم. الذين جاؤوا به باسم إنقاذ الجزائر، هم أنفسهم من خطّطوا لاحقًا لاغتياله.

في تلك الفترة كنت أعمل في مجال حقوق الإنسان في الوزارة التي كان يرأسها علي هارون. وهنا أوضح نقطة مهمة: البعض يردد أن هذا المنصب أعطي لي بعد أن أصبح أبي رئيسًا، لكن الحقيقة أن تعييني فيه كان قبل عودته بعدة أشهر.

يوم 29 جوان 1992، كنت في العاصمة، خارج المكتب، فسمعت في الشارع من يقول: «قتلوه! قتلوه!». كان الخبر صادمًا، ولم أستوعبه في البداية. عدت إلى الوزارة في حدود الواحدة، فوجدت الزملاء في حالة ذهول، دون تفاصيل واضحة. رفضت أن أصدق، فتوجهت مباشرة إلى الرئاسة، وهناك وجدت فتيحة، زوجته، تبكي بحرقة. في تلك اللحظة فقط تأكدت أن محمد بوضياف قد اغتيل.

بقيت طوال الأمسية مع أحد أصدقائي، غير قادر على استيعاب ما جرى. كان سؤال واحد يدوّي في رأسي: كيف يجرؤون على الغدر بمفجّر الثورة؟ كيف يذهبون إليه، بعد عقود من التهميش، ويقبلون يديه ويتظاهرون بالولاء، ثم يغتالونه بهذه البساطة، وعلى الهواء مباشرة؟

فيما بعد، التقيت الصحفية نادية كربوة، وهي صحفية من جريدة Le Matin. كانت تجلس في الصف الثاني بقاعة عنابة يوم الاغتيال. قالت لي إنها رأت بأم عينيها القاتل الحقيقي، وإن هذا الشخص قُتل على الفور في عين المكان. هذه شهادة صحفية، ليست شخصًا عاديًا، وهي تعلم ما تقول. لاحقًا، عندما عادت إلى الجزائر، افتُعلت لها قضايا تتعلق بالضمان وكراء سيارة، في محاولة واضحة لإسكاتها.

تقرير لجنة التحقيق الأولى تحدّث عن «إهمال إجرامي» في حماية الرئيس. وعندما يُقال عن إهمال إنه «إجرامي»، فهذا يعني أنه ليس مجرد صدفة، بل جزء من مخطط. أي جزائري بسيط، لو سألته، سيقول لك إنه من المستحيل أن يكون اغتيال رئيس الدولة فعلاً معزولًا. الفعل المعزول رواية لا يُصدّقها العقل.

بعد أسبوع من الاغتيال، حضرت مناسبة في الرئاسة لتلاوة القرآن على روح والدي. كان خالد نزار آنذاك وزيرًا للدفاع. جاءني بعكازته، وطلب أن يتحدث معي على انفراد، فابتعدنا عن الحضور. قال لي: «لقد مررتَ البارحة في التلفزيون الجزائري». أجبته: نعم، وكررت أمامه ما قلته في التلفزيون: «اللي جابوه، هم اللي قتلوه». قاطعني قائلًا: «لا تردّد هذا الكلام، وسأعدك أنك ستعرف الحقيقة، ومن قام بهذا العمل…». قلت له: «حسنًا… سنرى».

بعد ذلك، اتصلت به في وزارة الدفاع، وتركت له رسالة عبر الإدارة، بعد صدور التقرير الأول الذي كرر مقولة «الفعل المعزول». لم يجبني إلى اليوم. اتصلت ثانية بعد صدور التقرير الثاني، والذي كرر نفس المقولة، ولم أتلقَّ أي رد. منذ سنة 2001، بدأت أستجوب الشخصيات التي أعتبرها متورطة في مقتل أبي، عبر الصحف. وجّهت أسئلة مباشرة إلى خالد نزار، لكنه لم يجبني إلى اليوم.

أصدرت كتابًا بعنوان: «بوضياف: إلى أين تتجه الجزائر؟» شرحت فيه كيف أُتي بأبي وكيف قُتل. في هذا الكتاب ذكرتُ بالاسم: الجنرال العربي بلخير، والجنرال إسماعيل العماري (وقد توفيا)، والجنرال خالد نزار، والجنرال محمد مدين المدعو توفيق. هؤلاء، في نظري، مسؤولون عن المأساة التي عرفتها الجزائر سنة 1992، ومسؤولون أمام التاريخ عن اغتيال محمد بوضياف. إلى اليوم، لم يرد أيّ منهم على اتهاماتي.

في يوم الجنازة، رافقت الموكب إلى مقبرة العالية. لن أنسى ما حييتُ تلك اللحظات. كنت في السيارة الأولى، والجماهير مصطفّة على جانبي الطريق، تصرخ من أعماقها:

«بوضياف خلّى وصية، الشبيبة راهي جاية!»

«أنتم اللي جبتوه، أنتم اللي قتلتوه!»

وكانوا يصرخون في وجه المسؤولين: «يا الخونة! يا الحركى! يا القتلة! ألا تستحون؟».

رأيت بأم عيني الناس يركلون السيارات الرسمية، ويبصقون على من فيها، ويهتفون ضد السلطة. تساءلت في داخلي: كيف يمكن لهؤلاء أن يستمروا في الحكم، وشعبٌ بأكمله يكرههم إلى هذا الحد؟ قلت لنفسي: لو كنت مكانهم لاستقلت فورًا، وتركت الجزائر لأبنائها. لكن للأسف، ظلّوا في مواقعهم دون حياء، يحكمون شعبًا يمقتهم.

تعيين العربي بلخير سفيرًا في المغرب بعد الاغتيال كان بالنسبة لي، ولغيري، دليلًا على أن الرجل كان في قلب العملية. من غير المعقول أن تُوجَّه إليه أصابع الاتهام، ثم يُكافأ بمنصب دبلوماسي في بلد كان أبي يعيش فيه عقودًا!

أنا أرى أن اغتيال أبي لم يكن مجرد تصفية لشخص، بل كان جزءًا من مخطط أشمل لمحو جزء من تاريخ الثورة، ولضرب رمزٍ من رموزها الذين رفضوا التحوّل إلى أدوات في يد العصابة.

اليوم، وأنا أستعيد هذه الأحداث، أقول إننا بحاجة إلى دولة قانون حقيقية، ودولة عدل لا يُظلم فيها أحد. ديمقراطية بدون أحزاب حرة، وبدون معارضة حقيقية، ليست ديمقراطية. الجزائريون تعبوا من الواجهات المزيفة، ومن تغيير الدستور كلما جاء حاكم يريد التمديد لنفسه دون استشارة الشعب. عصر الأنظمة الاستبدادية مات أو هو في طريقه إلى الموت، كما رأينا مع مبارك وبن علي والقذافي. لا مستقبل للجزائر إلا بالتعليم الجاد، والإدارة الذكية، واحترام إرادة الشعب.

أنا لا أبحث عن الفوضى، ولا أدعو إليها. أبحث عن الحقيقة، وعن العدالة، وعن مصالحة حقيقية تقوم على كشف ما جرى، وعلى محاسبة من يستحق المحاسبة. أريد أن يعرف الشعب الجزائري كيف أُتي بأبي وكيف قُتل، ومن وقف وراء اغتياله، حتى لا يتكرر هذا السيناريو مع أبناءٍ آخرين من هذا الوطن.

أقولها بوضوح:

الذين جاؤوا بمحمد بوضياف إلى الحكم، هم الذين اغتالوه.

وأعدكم أن الحقيقة ستخرج إلى النور، مهما طال الزمن، لأن دماء الشرفاء لا تضيع، ولأن تاريخ الجزائر لا يُكتب بأقلام الخونة فقط، بل بشهادات أبنائها الأوفياء.

مختصر من حوار يتجاوز ساعتين

حاوره نورالدين خبابه  01 نوفمبر 2011






إرسال تعليق

[facebook]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget