يأتي هذا المقال في سياق حملات منظمة تستهدف رموز الذاكرة الوطنية في الجزائر، من الأمير عبد القادر وجمعية العلماء المسلمين إلى هواري بومدين، مقابل صناعة رموز وهمية لا تاريخ لها. يحاول الكاتب تفكيك هذا الخطاب التخويني، وفضح تزييف الوعي واستعمال الحَراك والنقاش الهويّاتي لخدمة مشاريع التقسيم وضرب وحدة الجزائريين.
وأنت تتابع الهجمات الكاسحة والمتتالية على رموز الوطن والمقدّسات، والترويج للدياثة والعهر والرداءة والانحطاط… ويا ليت الأمر اقتصر على شخصية بعينها أو منطقة، بل وصل إلى كل ما هو أصيل في هذا الوطن الجريح الذي تكاثرت الطعنات في ظهره. حتى الغناء الشعبي لم يسلم من التزييف، وحتى اللباس والطعام… تتساءل: من يقف وراء كلّ هذا؟ ولصالح مَن؟
لا شكّ أن الأحرار والحرائر يتألّمون ويتحسّرون لحاضر الجزائر، وللوضع الذي آلت إليه على كلّ الأصعدة. لقد ابتُليت الجزائر منذ وصول اللفيف إلى سلطة الحكم بتزييف الوعي، وغياب المنطق والعقلانية، وكثرة الانفعال، والحكم على الأشياء بنمطية مقيتة، بدل التفاعل الإيجابي المبني على الحقائق والحجج والبراهين. وابتُليت بأناسٍ يتظاهرون بالدفاع عن سيادة الجزائر وجغرافيتها وعن وحدتها؛ فمنهم من يتحدث عن نشر الوعي ويُعطي دروسًا في الوطنية والنضال والشرع…
ومنهم من يزعم الدفاع عن اللُّحمة ونبذ الفرقة وعدم تقسيم الصفوف، وعدم الخوض في المواضيع “الهامشية”. ومنهم من يتظاهر بمعارضة اللصوصية والزبائنية، ومنهم من يدّعي محاربة سياسات التمييز والعنصرية بين العلمانيين والإسلاميين… إلخ. ولكنهم في الواقع يفعلون النقيض، مُطبِّقين كلمةَ حقٍّ يُراد بها باطل.
إنهم يخدمون – بغباء منقطع النظير – دعاةَ التقسيم بتهيئة الظروف لهم؛ فيرفعون مجهولًا نصّابًا محتالًا ويحاولون أن يجعلوا منه قطبًا وركنًا في النضال، حتى لو كان أجبنَ الناس، ويجعلون من جاهلٍ غبيٍّ “أعلمَ الناس”، ويمحون في المقابل تضحياتٍ معلومة، ونضال رجالٍ لا تحتويه المجلّدات. وينشرون التضليل والتزييف والتدليس والتعصّب، ويحاولون قتل الفطنة في الإنسان من خلال تغييب عقله واللعب على العواطف والمتشابهات، ولعب دور الضحية باستخدام الخداع العاطفي… إلخ.
ويُختار خصوم من نفس الطينة: أناسٌ مطعون في مصداقيتهم، فيُرفَع شأنُهم فجأة ليُفرَض عليك الاختيار بين فكِّ ضبعٍ أو فكِّ تمساح، وكأنه لا وجود لخيارٍ آخر! ويُحدِثون صراعات داخل الأسر في مناطق بعينها من خلال التحريش، بالترويج لمن يتاجر بشرف العائلات ويبتزّها، ويُغذونه ويشهِّرونه ويدعمونه…
وحاشا الشرفاء في الحَراك وغير الحَراك الذين صرخوا بأعلى صوت وقالوا: كفى للفساد، كفى لإهانة الشهداء والجزائر. والذين يعارضون النظام بمشروع ومنهجية وعقلانية ورؤية واستشراف وأخلاق وسلوكات حضارية، وبعيدًا عن بخس الناس أشياءهم حتى من الخصوم، ويعملون على جزائر جديدة ينشدها كلّ المخلصين والشرفاء وتحقّق حلم الشهداء؛ فنحن نقاسمهم همَّ الجزائر ونتطلع معهم إلى ازدهارها ونهضتها ولو اختلفنا في السبل والرؤى.
لقد طعنوا شخصياتٍ كثيرة، بدءًا بعقبة بن نافع وصولًا إلى الأمير عبد القادر؛ هذا الأخير اتهموه بالماسونية، مع أن منهم من يقطن أمام مقارّها في لندن وعواصم أخرى! الأمير الذي جاهد وقت الاحتلال بالمال والسلاح، وليس ذاك الذي ينشر صورة ابنة سلال ويقبض الأثمان ويدّعي البطولة. وفرقٌ بين من وقع في معركة وأُجبِر على وضع السلاح، وبين من قطع الجبال والبحار بحثًا عن وثائق في أوروبا بحثًا عن شقراء وعيشٍ مُدلّل.
لا يزالون يطعنون قادةَ وزعماء الجزائر بعنصرية مقيتة، ويتّهمون الناسَ في المقابل بالعنصرية. ووصل الحدّ ببعضهم إلى أن يطلبوا من العرب استعادة رفات عقبة بن نافع التي مرّت عليها قرون، سخريةً وتهكّمًا من عودة رفات الشهداء الزكية في ذكرى عيد الاستقلال 2020، مع تحفّظنا على بعض التفاصيل في هذا المقام…
ويطعنون في عروبة وإسلام الجزائر إلى درجة أنهم أصبحوا يُخَوِّفون الناس بذلك، ويهدّدونهم بمجرد الاستشهاد بحديثٍ أو ذكر آية من القرآن، بمصطلحات من قبيل “إسلامي” و“داعشي”، ويطلبون من العرب مغادرة الجزائر، ويجدون من يقف إلى صفّهم ويدعمهم من الحمقى.
يطعنون في مصالي الحاج ويتهمونه بالخيانة وحبّ الزعامة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالأسبقية في النضال فإنهم لا يترددون في نسبة شخصياتٍ إلى حزب الشعب، بل ويضعونهم موضع القيادة والتوقير. وها قد ابتلاهم الله بحبّ الزعامة، فصار الناس يترحّمون على زمن مصالي الحاج. يكفي حزبه شرفًا أنّ قادة الثورة جميعًا كانوا مناضلين فيه. وفرقٌ بين من كان يواجه الاحتلال وقت كانت نسبة الأمية متفشية، وبين من يعيش في الأوهام في عصر العلم والتكنولوجيا؛ وفرقٌ بين من كوّن الأجيال وبين من يتبعه الأنذال.
يطعنون في جمعية العلماء ويتهمونها بأنها لم تشارك في ثورة التحرير، مع أن قادة الثورة تعلّموا في مدارسها، ويستدلّون في ذلك بمقطع فيديو مبتور لمحمد بوضياف؛ هذا الأخير جاء به اللفيف ونصّبوه رئيسًا بعدما اعتدوا على إرادة الشعب سنة 1991، مع ما يُحسب له من نضالٍ وتضحية، فهو الآخر كان ضحيتَهم. ويستدلّون بمقطعٍ آخر لعثمان بلوزداد، فيما يتجاهلون تاريخ شخصيات أخرى، مثل عمار بن عودة – الذي كان عضوًا في مجموعة 21+1 – ورابح بيطاط عضو مجموعة 5+1، والذي كان وزيرًا ورئيسًا للبرلمان في فترة هواري بومدين… وآخرين.
فهل ننظر إلى أعضاء ما يُطلَق عليهم 6 أو 22 بعينين مفتوحتين، في تاريخٍ مشترك فيه الثغرات والإنجازات، أم بعينٍ واحدة رمداء ترى فقط ما يُراد لها أن ترى، وتَحجب ما يجب أن يُحجب؟
يكفي جمعية العلماء فخرًا أن العربي التبسي وُضِع في الزيت المغلي واستُشهِد دون أن يبيع ذرّة من الوطن؛ ويا لها من تضحيةٍ لا يعرفها من يأكل صحن فاصوليا في مطعمٍ دون نجمة بباريس ثم يأتي إلى المواقع ينشر قيئه!
يجعلون من مؤتمر الصومام ووصية عبان رمضان مرجعًا لهم، مع أن منهم من يجهل أن هذه النظرية كان توقيتها خاطئًا في الزمان والمكان. ويكفي أن ندحضها بدليلٍ واحد: مجموعة 5+1 التي فجّرت الثورة، لو كانوا يؤمنون بنظرية أسبقية المدني على العسكري لما خرجوا عن مصالي الحاج ولما فجّروا الثورة؛ فهل الثورة المسلحة وقت الاحتلال يقودها مدنيون؟
منهم من وقف إلى جانب خالد نزار في بداية التسعينيات، وهم من أيّد تجميد قانون اللغة العربية، وهم من أيّد بوضياف وزروال وبوتفليقة الذين جاء بهم اللفيف، وهم من أيّد ترشيح الجنرال علي غديري عندما خرجت جحافل من الشعب تطالب بالتغيير في 2019. فهل من المنطق أن يتم الحديث عن مؤتمر الصومام ويتم تجاهل بيان أول نوفمبر ومؤتمر القاهرة ومؤتمر طرابلس؟ وهل التاريخ حلقات متسلسلة أم حلقة واحدة مبتورة؟
لقد طعنوا هواري بومدين وهو في قبره ولا يزالون، واتهموه بتهمٍ عديدة جهلًا، ومنها أنه لم يطلق رصاصة، مع أنه هو من أتى على يخت “دينا” المحمَّل بأطنان من السلاح، شهرين بعد تفجير الثورة عبر الناظور بالمغرب. فهل يُعقَل أن يأتي بيختٍ لا يحمل رشاشًا؟ وهل يُعقَل أن يعرّض نفسه في شهر العواصف في البحر وهو يخاف الموت؟! هو من كان ينشط تحت إمرة العربي بن مهيدي وعبد الحفيظ بوصوف – عضوَي مجموعة 21+1 – وأصبح قائدَ ولايةٍ في الغرب الجزائري فيما بعد، قبل أن يُنشأ جيش الحدود الذي فرضته طبيعة الحرب وخطّ شال وموريس ومعركة الجزائر، واختراق صفوف الثورة بقضية ما بات يُعرَف بـ«لابلوَيْت». وكان قائدًا لجيش التحرير باختيارٍ من قادة الثورة، وهما بن طوبال وبوصوف – وهما من مجموعة 21+1 – بعد الصراعات التي حدثت بينهم، ومنها اغتيال عميرة علاوة واستقالة الأمين دباغين من الحكومة المؤقتة.
ومنهم من وصل به الحدّ إلى درجة اتهام هواري بومدين بالخيانة العظمى بسبب سماحه – حسب زعمهم – بالتجارب النووية لفرنسا في الصحراء، مع أن هواري بومدين كان ضدّ اتفاقيات إيفيان التي رسّخت لذلك. وقد وقّع على الاتفاقيات كريم بلقاسم والحكومة المؤقتة بقيادة بن يوسف بن خدة، والغريب أنهم ينسبون الاستقلال إلى إنجازهم بتوقيع اتفاقيات إيفيان ويتحدّثون عن تقرير المصير المرتبط بالتعاون مع فرنسا ويتظاهرون بكرهها، ويدافعون في المقابل عن آخرين اعتقلتهم فرنسا وكانوا في مأمنٍ طيلة الثورة وإلى غاية بزوغ فجر الاستقلال…
يتّهمون هواري بومدين بأنه لم يخض الثورة وكان في الحدود، فيما يعيشون هم في باريس وسويسرا ولندن وكندا… يتناولون الشاي بالفستق على المباشر، ويشربون الزنجبيل متظاهرين بالمقاومة والبطولات الزائفة على الشعب الجزائري، ويا ليتهم استحوا.
يتّهمون هواري بومدين بأنه قتل كريم بلقاسم ومحمد خيضر، ويتظاهرون بمحاربة الفساد وبتبنّي شعار: “أكلتم البلاد يا السراقين”، وينسون أن الجنرالات الذين كان على رأسهم العربي بلخير وتواتي ونزار ساهموا في قتل أكثر من مئتي ألف جزائري في التسعينيات، ناهيك عن المختطفين الذين لم يظهر مصيرهم إلى اليوم، ولا أحد منهم يدافع عن الحقيقة لأنها ستفضح تورّطهم. كما أن محمد خيضر أخذ أموال الشعب وحوّلها إلى معارضة في سويسرا، ونُهِبت أموال الجزائر في التسعينيات وحُوِّلت إلى أرباب، فيما يتظاهرون بالحقرة والظلم…
تعلّموا التحدّث عن بطولات الواقع، وابتعدوا عن طعن الشهداء ورموز الوطن ومن كان لهم فضلٌ في تحرير الجزائر عسكريًّا، قبل أن تحدّثونا عن البطولات الفارغة في المواقع، وتحاولوا أن تجعلوا من مجهولِ النَّسَب قائدًا ورمزًا للنضال.
نورالدين خبابه
07 جويلية 2020

إرسال تعليق