هاته هي الجزائر الجديدة التي نحلم بها، لا جزائر خالد نزار وديغول!

مقال يقارن بين «الجزائر الجديدة» التي يحلم بها الشعب وجزائر ديغول وخالد نزار، وينتقد إعادة تدوير النظام نفسه بتغيير الشعارات والوجوه.

يأتي هذا المقال في خضمّ الجدل حول شعار «الجزائر الجديدة» بعد حراك 22 فيفري 2019، حيث يقارن الكاتب بين الجزائر التي حلم بها جيل نوفمبر وهواري بومدين، والجزائر التي صاغت ملامحها منظومة خالد نزار وتوفيق وتواتي ومن سار على نهجهم، محذرًا من إعادة إنتاج نفس النظام بوجوه جديدة وشعارات مزيّفة.
من عايشوا جيلي عرفوا ما عاشته الجزائر خلال مرحلة هواري بومدين على الأقل، إلى جيل عبد المجيد تبون. وسمعوا بآذانهم قصص الثورة من صانعيها مباشرة، قبل أن يبدأ تأليف الروايات وصنع الأفلام والمسلسلات، حيث وصل الأمر إلى درجة البهتان، وأصبح من كان في عمره خمس سنوات مجاهدًا أو شاهدًا على أحداث الثورة!

وشاهدوا بأعينهم آثار الدمار الذي تركته فرنسا في المداشر والبيوت التي هدمتها طائراتها، والبساتين التي أحرقتها غازاتها... ولحقوا بعناصر جيش التحرير في الثكنات وهم لا يزالون يمسكون أصابعهم على الزناد، خوفًا من احتلال جديد بطريقة أخرى.

عرفوا هِمّة الجزائري أيام هواري بومدين، مع الهفوات والأخطاء والسرقات المختلفة التي تعرض لها الشعب، وسمعوا خطاباته الجهورية ولمسوا أفعاله وهي تجسَّد على أرض الواقع بعد كل قرار، وهيبة الجزائر في المحافل الدولية، حيث كان يقف الزعماء لاسم الجزائر ويرفعون القبعة، ومواقفها من قضايا الشعوب وتحرّرها.

ودرسوا على يد معلّمين، منهم من كان عضوًا نشطًا في حزب الشعب، ومنهم من كان عضوًا في جمعية العلماء، ومنهم من تخرّج من الزيتونة، ومنهم من درس في بغداد ودمشق وفاس والقاهرة، ومنهم من جاء من فلسطين... وارتووا بحليب الوطنية الصادقة الصافي من درن الخيانة والعمالة، وصانته فوق كلّ هذا عناية إلهية، إلى أن أمسك جيل نزار وتواتي والعربي بلخير وغيرهم، ممن ارتووا بالغدر والسفالة، زمام الأمور، وأرادوا أن ينتقموا من هوية الشعب عبر أبواب مختلفة عجز المحتلّ عن اختراقها.

فاستوردوا نظامًا جاهزًا يحرّفون به فطرة الشعب الجزائري، معتمدين على المستلَبين فكريًّا، مستعملين ثروات الشعب التي حرّرها بدمائه على مرّ العصور، والتي اختلطت بالعروبة والأمازيغية؛ فهذا طارق، وذاك العربي، وذاك بطل، وآخر صنديد... وأحبطت عدوانًا غاشمًا، مستعملين المنخدعين بوطنية مكذوبة ودين محرَّف.

رأوا بأعينهم كيف انقلبت الموازين، وكيف أُدخل الشعب في مغامرة بعد وفاة هواري بومدين التي تبقى لغزًا يجب أن تُفَكَّ طلاسمُه. ومهّدت وفاته لوصول فصيل الخونة الذين أسّسوا لمحرقة التسعينيات، بدءًا بتصفية ضباط جيش التحرير بحجّة الإطاحة بالجنرال بلوصيف، فكانت أحداث أكتوبر الأليمة، وكيف أزيح مهري من جبهة التحرير بعدها في مؤامرة أمنية كان أبطالها من أصحاب الوطنية المغشوشة، وكيف هُمِّشت الشخصيات الوطنية والطاقات المختلفة، وبدأت هجرة العقول والـ«حرقة»، وكيف بدأ تسليم المؤسسات والأملاك العمومية...

ورأوا سلوكات غريبة وخطابات وممارسات جديدة لجزائر جديدة، غير الجزائر التي أرادها جيل نوفمبر ويؤمن بها الشعب.

فبعدما كانت الجزائر تعرف بالأمير عبد القادر، والعربي بن مهيدي، وبن باديس، والورتلاني، وعميروش، وزهانة، ولالة فاطمة نسومر، والمقراني... وشخصيات أخرى على المستوى الوطني يحتاج ذكر أصحابها وأعلامها إلى مجلّدات، أصبحت تُعرَف بالشاب خالد «دي دي واه» وغيره ممن كانوا يزعمون رفع العلم وتمثيل شهداء الجزائر وهم يأخذون ملايين ومليارات. وفرق واضح بين جيل هواري بومدين وجيل «هواري (...)» وأضع نقطة.

انفلت العقد وانقلبت الموازين؛ فلم يعد الإمام إمامًا، ولا الطبيب طبيبًا، ولا الأستاذ أستاذًا، ولا الأم أمًّا، وحلّت الساعة باختصار، حيث بتنا نشاهد أناسًا يشعلون أنفسهم بالبنزين، ومنهم من يلقي نفسه من قمة جبلٍ أو من أعلى جسرٍ، وأُدخِلت الجزائر في فتنة عمياء، ارتُكِبت فيها مجازر رهيبة لم نتخلّص من تداعياتها إلى اليوم، دون معرفة للحقيقة أو حتى الاتّعاظ.

تحرّك مَن ما زال في قلوبهم عِرقٌ ينبض، وبدأوا في محاولات استنهاض الأمّة، بدءًا بوضع كمّادة على النزيف لمحاصرته، وخاضوا حروبًا على جبهات مختلفة، سواء بالكتابة أو بالتسجيلات أو بأعمال أخرى، منها ما هو مرئي ومنها ما كان غير ذلك. وبدأت ردود الأفعال والمبادرات تظهر لجمع الشمل وتغيير واقع الجزائر الموبوء آنذاك، ووصل الصدى إلى قادة في الجيش كانوا في صفوف خلفية، وما تبقّى من النخوة الوطنية التي فُرض عليها حصار، لاسيما في وسائل الإعلام.

وفُتح حوار في الإنترنت لكسر تلك الحواجز النفسية التي اصطنعوها، ومعه كُسِرَت جميع الطابوهات في المنتديات في البداية، قبل ظهور اليوتيوب والفيسبوك، وبدأ الوعي يتراكم. فبدأت العصابة تشعر بالحرج وبالرياح القادمة، وتُعِدّ عدتها من جديد، لاسيما وأنها بدأت تفقد السيطرة والاحتكار على المعلومة، فابتعثت أناسًا إلى الخارج للطعن في الشهادات، ومَوَّنتْهم بالمال والإشهار والأخبار والعتاد، قصد تحريف الوعي وتضليل الناس وإبعادهم عن معرفة الحقيقة، والإيقاع بأناس قصد ابتزازهم سواء بالصوت أو بالصورة لتخويف البقية ممن يتحدثون في الشأن العام.

وتم إجهاض عدة محاولات للتغيير كانت أولها في 2011 بعد فشل محاولات أخرى من قبل، وتم اختلاق حركات جديدة و«حزيبات» جديدة وشخصيات جديدة، قصد إجهاض عملية التغيير وإغراق الساحة، وتقديم أناس للترشح، منهم من أسنانه ساقطة، لتكفير الناس بالسياسة وتيئيسهم من الحلول.

جاء الحَراك الذي كان مخترَقًا منذ بدايته من طرف هذه الدولة العميقة واللعينة، كما ذكرنا في مواضيع سابقة، مع أن جزءًا منه كان للكفر بعهد بوتفليقة. غير أن جزءًا منه انفلت من حاجز المراقبة وكسر الحواجز وتعدّى المألوف، وفاجأ في بعض جوانبه العصابة التي كانت تنوي وأده، فأُعطِيت الفرصة لجناح في الجيش كهدية ربانية، فأمسك قبضته وأدخل بعض رؤوس العصابة إلى السجن.

وكنا نأمل أن يستغلّ قادة الجيش، لاسيما الذين لا يظهرون في وسائل الإعلام، هذه الفرصة التاريخية فيطهّروا الجزائر من رجس الصعاليك الذين عاثوا في الأرض فسادًا، ويعيدوا الجزائر إلى أبنائها الوطنيين والأصلاء، من الذين كانوا يتألمون لطعنها وتشويهها أمام الأمم بالإرهاب تارة، وبالسفالة والرداءة تارة أخرى، حيث وصلت صورة الجزائر مع صورة بوتفليقة وهو على كرسي إلى سينما مفتوحة والشعوب تضحك.

وكان أملُنا أن نرى ممارسات جديدة، وسلوكات جديدة، وخطابات جديدة، فأُعلن عن وفاة قايد صالح التي تبقى محل تحقيق وتساؤلات، لاسيما وأنها حصلت مباشرة بعد تمكين عبد المجيد تبون، إلى أن جاء فيروس كورونا وجمّد الحَراك. ومع أن آفة الفيروس الفتّاك مست المجتمعات كلها وبيّنت ضعف الدول الكبرى أمامه، فكيف بما دونها...؟

كنّا نأمل أن يكون هذا الامتحان مدرسة للمراجعة، مدرسة لَلمِّ الشمل، مدرسة للتراحم، مدرسة للعطاء والتضحية. ولكن للأسف، ها هي شعوب بدأت تخرج من هذا الوباء، ورغم ما حلّ بها بدأت تستعيد نشاطها، إلا أنّه في الجزائر، ومع ما حلّ بها من ضحايا، فإنه لا يقارن أبدًا بما حصل في غيرها؛ فالذي قُتِل بسبب فيروس كورونا طيلة الفترة قُتِل في يوم واحد في دولة أوروبية.

وبتنا نشاهد التوظيف السياسي لهذه الآفة، وبدل أن نسير إلى جزائر جديدة، أُعيد تعيين وجوه ممقوتة شعبيًّا، وعادت حالة الاحتقان والاستياء.

كيف لنا أن نثق في مَن يرفعون شعار «الجزائر الجديدة» المختطَف من أصحابه الحقيقيين، ونحن نرى عودة الوجوه الممسوخة التي ساهمت في طعن الجزائر في خصرها؟ كيف لنا أن نثق في مَن يحملون شعار الجزائر الجديدة ونحن لا نزال نشهد نفس السلوكات والتصرفات والممارسات؟ أتعجز دولة بحجم قارة أن تعطي جواز سفر لمواطن يثبت هويته دون مساومة وهو الجزائري أبًا عن جدّ، فيما لا يزال رؤوس العصابة يتمتعون بالحماية، ويُعيَّن أناس شاركوا في إبكاء الشعب في مجلس الأمة بل وفي الرئاسة؟

نريد أن نلمس في أي موقف يقوم به أي مسؤول رائحة الجزائر الجديدة ومعالمها، وفي أي حدث يحلّ بالجزائر الجزائرَ الجديدة: في التعيينات، في المراسلات، في التعاملات، في الدبلوماسية، في العقليات، حتى في الديكور، في الهيئات... نريد أن نرى وجوهًا جديدة، وإعلامًا جديدًا، وممارسات جديدة من القمّة إلى القاعدة.

نريد أن نرى سلوكات جديدة في كل المجالات: الرياضية والسياسية والسياحية والاقتصادية، في الإدارة... نريد أن نشمّ أجواء جديدة، فضاءات جديدة، علاقات جديدة.

هل يمكن أن نتحدث عن جزائر جديدة بعقليات قديمة؟ بوجوه أقذر من القذارة، وأوسخ من الوساخة؟ هل يمكن أن نتحدث عن جزائر بالطعن في الهوية؟ هل يمكن أن نتحدث عن جزائر جديدة بالعملاء والمرتزقة؟ هل يمكن أن نتحدث عن جزائر جديدة بأشخاص لا يعرفون شيئًا عن الإنترنت وعن التكنولوجيا؟ هل يمكن أن نتحدث عن جزائر جديدة بنفس الوجوه المحنَّطة؟

تغيير الأسماء والشعارات وبقاء دار نزار وتوفيق وتواتي... على حالها لم يعد نافعًا، ولا سياسة الترقيع والهروب إلى الأمام وتغيير الأقنعة بنافعة، ولا تغيير زعامات قديمة بجديدة، ولا مشايخ قدماء بمشايخ جدد بنافع.

نريد أن يتغيّر واقعنا إلى أحسن من خلال جزائر جديدة فعلًا وقولًا، وهذه هي الجزائر التي نحلم ونعمل لها: جزائر الأخلاق، جزائر الكفاءة، جزائر العلم، جزائر الطبيعة، جزائر الساحة، جزائر البيئة، جزائر الطاقات المتجددة، جزائر الاقتصاد، جزائر الفلاحة والزراعة، جزائر نصرة المظلوم... لا أن نبقى في حلقة مفرغة وحالنا من سيّئ إلى أسوأ.

وعندما أقول هذا فأنا لا أقصد فقط مَن هم في السلطة الحالية، بل أعني حتى الحالمين بها، سواء الذين فشلوا في تحقيق مبتغاهم وساروا من قبل في انتخابات 12 ديسمبر 2019 وقبلوا بنتائجها دون أن يطعنوا فيها وهم الآن يهدّدون بالنزول إلى الشارع للضغط من أجل الحصول على مواقع، أو الذين اختاروا 19 جوان 2020 كذكرى لعودة الحَراك بعد التجميد بسبب فيروس كورونا، وهم لا يزالون يحملون أحقادًا قديمة على هواري بومدين الذي منعهم من إمساك الجزائر والانتقام من العرب والإسلام وأصالة الشعب الجزائري.

ففرق بين الجزائر التي يحلم بها الشعب، وبين «جزائر خالد نزار وأتباعه» و«جزائر ديغول».

نورالدين خبابه
18 جوان 2020

إرسال تعليق

[facebook]

أرسل رسالة نصية

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget