مغالطات حول المرحلة الانتقالية والحراك في الجزائر !

مقال يناقش المغالطات حول المرحلة الانتقالية في الجزائر وعلاقتها بالحراك، ويفرق بين رفض التزوير ورفض الانتخابات في حد ذاتها.


يناقش هذا المقال الجدل حول «المرحلة الانتقالية» في الجزائر بعد حراك 22 فيفري، ويردّ على من يستعمل نماذج العراق وليبيا لتخويف الجزائريين، ويخلط بين رفض التزوير ورفض الانتخابات في حدّ ذاتها، محاولًا توضيح معنى مرحلة انتقالية حقيقية تمهّد لجمهورية جديدة بدل إعادة تدوير نظام قائم.
عثرت على كلامٍ في بعض الصفحات وبعض المداخلات التي أُرسلت لي، لِجزائريين لا يفقهون شيئًا في السياسة، ومنهم من يقدّم نظام العراق وليبيا وسلطة بريمر وفلسفة برنار هنري ليفي كنماذج للمرحلة الانتقالية، بغرض تخويف الشعب الجزائري من الحرب الدائرة هناك.

وبطريقة أخرى: اللعب على دغدغة الذاكرة الجماعية لإحياء صورة المأساة في الجزائر في مخيلة الناس وتذكيرهم بالجراح بشكل آلي، كنت قد أفردتُه بموضوع منذ سنوات، ويدخل في إطار التلاعب بالذاكرة والحرب النفسية، ولكن يَخفي على الناس تأييدُ هؤلاء للجنرالات في حربهم خلال التسعينيات.

وكأن هؤلاء المتحدّثين لهم دراسات وأبحاث ونظريات قدّموها في معاهد، أو لهم تحليلات تُدرَّس ويمكن أن نأخذها كمعيار! أو لهم رصيد نضالي نزود به طاقتنا؟ ونسِي هؤلاء أن الجزائر لم تُحتَلّ من قِبَل أمريكا، وحراكها لم يصنعه حلف الناتو أو يؤيّده كما حصل في العراق وليبيا، بل جزائريون وجزائريات أحرار يتظاهرون بسلمية لمدة تسعة أشهر حيّرت العالم، ويرفضون التدخّل الأجنبي في أغلبيتهم، وشعارهم: «زيتنا في دقيقنا». وقد انتفضوا بعد أن أصبحت الجزائر مضحكة في العالم، ولا داعي للتفاصيل.

وفي الوقت نفسه، تجد هؤلاء المتشدّقين بالمعرفة والمتفيقهين يتحدثون بأن المرحلة الانتقالية تكون عندما يريد الناس الانتقال من نظام حكم إلى آخر… وكأنهم راضون بنظام الحكم المقعَد؟! والصمّ والبكم والعُمي يدركون أنه إلى غاية كتابة هذه الأسطر لم ننتخب رئيسًا بعد! فهل من المنطق أن شخصًا يمتلك عقلًا ويريد أن ينظّف مكانًا من الأوساخ أن يستعمل مكنسة متسخة؟ وقد اتضح الخيط الأبيض من الأسود.

كيف يخيفون الناس من مستقبل لم نعشه بعد؟ وكيف وواقعُنا موبوء بالمشاكل المختلفة، من الأسرة إلى الصحة إلى الجامعة إلى النقل إلى كل المؤسسات بدون استثناء، وكل القطاعات… وهذا ما جعل الناس تتحرك؟ لست أدري إن كان هؤلاء يفرّقون بين الواقع والتوقّع، وبين النقد والاتهام؟!

لا عجب لهذا التخبّط والتناقض؛ فقد استمعت إلى شخصيات تُلقَّب في وسائل إعلام موجَّهة بأنها وطنية وتحذّر من هذه المرحلة الانتقالية أيضًا، وفي الوقت نفسه تتحدث عن «العصابة» التي كانت تحكم البلد، وعن النظام البائد الذي هم جزء منه… إلخ.

وكأن هذه العدالة في الجزائر لم تكن عدالة النظام؟! والأجهزة الأمنية المختلفة والقوانين والمؤسسات، أليست هي نفسها المؤسسات التي كانت تخضع لنفس النظام الذي لا يزال قائمًا؟ فهل من المنطق أن نرى مساجين كانوا ضد بوتفليقة، فيما المرشحون كانوا كلهم معه؟ وهل من المنطق أن يتغيّر نظام جثم على صدور الجزائريين ردحًا من الزمن بمجرد سجن أشخاص؟

لقد ابتُلينا سنواتٍ في الجزائر بقحطٍ وجوعٍ فكري، بسبب سياسة التضليل التي كان يمارسها الإعلام، وسياسة التصحير السياسي والتجهيل والحطّ من المعنويات وغرس الإحباط. وليس من السهل أن يقتنع المُروَّضون فكريًا والمبرمجون إعلاميًا بممارسة حقوقهم؛ فمن اعتاد على العبودية منذ نعومة أظافره، ليس بين عشية وضحاها سيقتنع بنسائم الحرية والإقلاع الحضاري…

ولتلطيف الأجواء أقصّ عليكم هذا الموقف: رأيتُ حمارًا في مشهد مصوَّر ظل يدور حول مطحنة لأكثر من سنة، وعندما أطلقه صاحبه بقي الحمار يدور على نفس الشكل! فلا غرابة أن نقرأ ونسمع لمثل هكذا مشاهد!

إن الذين يتهمون المؤمنين بالمرحلة الانتقالية في الجزائر بأن أصحابها يريدون التعيين ويرفضون الانتخابات…

نقول لهم: من انتخب رئيس الحكومة بدوي، وكل الحكومات التي سبقته منذ الاستقلال؟ ومن انتخب عبد القادر بن صالح؟ بل من انتخب عبد العزيز بوتفليقة ومن قبله؟ أليست قيادة الجيش من أتى بهم وعيّنهم؟
أليس بن فليس خسر الانتخابات الحرّة سنة 1991 في باتنة، وبعد أيام عُيّن وزيرًا في حكومة الانقلاب التي قادها أحمد غزالي وقادت الجزائر إلى ويلات لم نتخلص منها إلى اليوم؟
أليس حزب «حماس» لم يتحصّل على أيّ مقعد في البرلمان ثم تم تعيين عبد القادر بن قرينة – المرشح الحالي – في المجلس الانتقالي وقتها؟ ألم يُعَيَّن عبد القادر بن صالح رئيسًا للمجلس الانتقالي وقتها ولا يزال إلى اليوم في الحكم وعلى رأس الدولة رغم أنف الشعب؟

دعونا من بوتفليقة ومن قبله. من الذي انتخب كريم يونس على رأس لجنة ما سُمِّي بالوساطة والحوار بعد خلع بوتفليقة؟ ومن الذي انتخب محمد شرفي في لجنة ما سُمِّي بالسلطة الوطنية لمراقبة الانتخابات؟ ومن انتخب أعضاء هذه اللجنة ونحن نعرف بأن منهم متحزّبين، بل ومنهم من كان مساندًا لبعض المرشحين؟
هل الشعب الجزائري كان ولا يزال يرفض الانتخابات، أم يرفض تزوير إرادته، لاسيما وأنها زُوِّرت عدة مرات وقد ألف هذا النظام غدره؟

نعم، هناك أقلية ترفض الانتخابات وتريد التعيين، ولكن هذه الأقلية هي من تخشى الانتخابات الحرّة والشفافة؛ جزءٌ منها يزعم المعارضة وجزءٌ في السلطة الحاكمة، وكلاهما لا يريدان أن تكون انتخابات حرّة وشفافة، وهي التي يبحث عنها الشعب. الجزء الذي في السلطة يريد أن تكون الانتخابات على المقاس، والجزء الخارج من السلطة يريد أن يختلق أوضاعًا لفرض مرحلة انتقالية على مقاسه بعدما خسر السلطة ويريد العودة لاسترجاع بعض مفاتيحها، ونحن منتبهون لذلك.

ولكن: نحن لسنا مع المرحلة الانتقالية بغية التعيين، أو بغية التموقع والمناصب دون تمثيل حقيقي للشعب، أو الفراغ، أو العودة للمآسي…

لماذا تمارسون التضليل والتدليس على الشعب؟ من الذي أشعل حربًا في الجزائر وأنتم تعترفون كل يوم على منابركم أن خالد نزار الهارب، والجنرال توفيق الذي يقبع في السجن، وغيرهم… هم من شارك في هذه المأساة؟ من الذي كان يحمي الفساد طيلة حكم بوتفليقة ولمدة 20 سنة؟ أعطوني اسمًا واحدًا من المعارضين الحقيقيين الذين يريدون التغيير الحقيقي في الجزائر له ملف فساد، سواء مادي أو أخلاقي؟

إن الشعب الجزائري سئم من الوعود، وسئم من الترقيعات، وسئم من حالة التأجيل التي أنتم من يتعمّدها، وسئم من هذا الركود، ويريد أن ينهض بالجزائر تلك النهضة التي طال انتظارها. والمرحلة الانتقالية التي يريدها الشعب هي ضرورة لإرساء جمهورية جديدة يُجسَّد فيها العدل والحق والقانون، جمهورية تسع الجميع، وليست الجمهورية التي يُمارَس فيها الاستبداد؛ جمهورية المصالحة، وليست جمهورية الأحقاد وتصفية الحسابات.

والمرحلة الانتقالية هي بمثابة الجسر الذي ينقل الجزائر من وضعها الداكن والضبابي إلى وضعٍ تسطع فيه الشمس، وهي التي تمهّد للقضاء على دولة العصابات والدولة العميقة في شكلها السلبي، وهي التي تغلق المنافذ.

فالذي عيّن كريم يونس لحساباتٍ اتضحت بعد ترسيم المرشحين كان يمكنه – لو أراد إنهاء الأزمة وإنهاء العصابة ومحاربة الفساد – أن يستمع إلى نبض الشعب ويختار شخصيات مقبولة شعبيًا. إن المرحلة الانتقالية هي مدة زمنية مدروسة تأتي ثمرة حوار جدّي تُحضّر لانتخابات حقيقية تُفرز رئيسًا يتمتع بإرادة شعبية مريحة، كما هو الشأن في تركيا أو في ماليزيا، تمكّنه من أن يُحدِث تغييرات جوهرية وفق مشروع مجتمع متوافق عليه، وتسمح له بأن يكون قائدًا فعليًا للجيش.

وليست الانتخابات التي تريدونها وأنتم في الحقيقة تريدون رئيسًا منقوص الشرعية وله ملفات ابتزاز، حتى تَمُنّوا عليه بالقوة التي تمتلكونها وتحاصرونه بها حتى يصبح رهينة كما كان من قبله، وتستبدلونه متى شئتم.

نورالدين خبابه
26 نوفمبر 2019

إرسال تعليق

[facebook]

أرسل رسالة نصية

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget