كُتب هذا المقال في الأسابيع الأولى للحراك الشعبي في الجزائر، حين كانت السلطة تتخبط بين إنقاذ واجهتها والاستجابة لمطالب الشارع. يحاول الكاتب تفكيك دور الدولة العميقة في توجيه الأحداث، وقراءة تحركات قيادة الجيش والصراع الخفي بين جناح السعيد بوتفليقة وجنرالات الظل، في لحظة مفصلية بين سلطة حائرة وشعب ثائر.
الصراع في الجزائر بين سلطة حائرة وشعب ثائر!
ليس مغازلةً للشعب الجزائري فأنا منه وكفى، ولا دغدغةً للعواطف، بل بصوته الثائر المدوي الذي ظل وفيًّا لمبادئه رغم المحن، وعلى مرّ السنين وهو يدعو إلى تغيير حقيقي في الجزائر وتجسيد السيادة الحقيقية على كل الأصعدة، دون انتقام ولا تصفية حسابات، بل بتغيير يحقّق النهضة المنشودة ويجعل الجزائر في مصافّ الدول الكبرى ويحقّق أحلام الشهداء.
إنّ ما يجري في الجزائر من حراك هذه الأيام، ولو أن انطلاقته كانت تطرح عديد التساؤلات قبل أن يفلت هذا الحراك من قبضة الدولة العميقة التي لا تزال ترقبه وتحاول توظيفه، لم ينطلق من ذاته، بل كان نتيجةً لتراكمات مختلفة، وكان في البداية يهدف إلى توقيف العهدة الخامسة فقط لاستبدال شخصية عبد العزيز بوتفليقة بشخصية من جهاز الدولة العميقة.
لقد تغيّرت الأوضاع بشكل متسارع ومخيف أحيانًا؛ فإذا لم تكن هناك قيادة رشيدة تؤطّر الحراك، غير متورّطة في الدماء والفساد الأخلاقي والصراعات السياسية، وتكون نابعةً من صلب الشعب ولم تتقلّد أيّة مسؤولية، لاسيما في فترة التسعينيات، وموقفُها واضح وصريح من الانقلاب على الإرادة الشعبية سنة 1992، والانقلابات بشكل عام، وما يجري في الوطن العربي الكبير من مآسٍ، وتُدرك مآلات التحوّلات الإقليمية والدولية وتأثيرها على الجزائر، لاسيما ما تعلّق بمخطط الشرق الأوسط الجديد، وتعرف جيدًا تلك المخططات التي تهدف إلى تقسيم البلاد وتعرف كيف تتعامل مع الحركات العنصرية... فإنّ الجزائر تسير إلى المجهول.
إنّ الذي يُراد له هذه الأيام هو استدراج الجيش الجزائري، من خلال دسائس ومؤامرات مختلفة، إلى حربٍ قذرة كما استُدرج من قبله جيشُ ليبيا وسوريا واليمن والعراق، وكما استُدرج الجيش نفسه في التسعينيات، مع أن الانطلاقة كانت سلمية.
ليس من العبث أن تُنشَر تسريبات تحرّض منطقة القبائل بأكملها، وفي المقابل ردّات فعل عنيفة تدعو إلى رمي علم الجزائر في سلّة المهملات...
وليس من العبث تداولُ صور أفراد الجيش وهي تدعم جهةً ضد أخرى، وليس من العبث نشرُ ملفات الابتزاز على مواقع التفاعل وهي تستهدف جهةً ضد أخرى قبل أن يبرز هذا الحراك، وليس من العبث نشرُ بياناتٍ وتوصيات على مواقع التواصل بدل القنوات الرسمية، وتُعطى لأناسٍ يعرف الدّاركون والعارفون بما يجري أنهم مكلَّفون بمهمّة...
في ظلّ شعبٍ ثائر على الأوضاع، يبحث عن المعلومة الصادقة التي تمكّنه من فهم ما يجري في هرم السلطة، لاسيما تحوّل قيادة الجيش ممثَّلة في القايد صالح، الذي ظلّ يؤيّد الرئيسَ بوتفليقة ويحمي عائلته على مدار سنوات، ويدعو إلى احترام الدستور والانتخابات في آجالها القانونية، بل وتلقيب المتظاهرين بالمغرَّر بهم في بداية الحراك.
كيف لا، وهو الذي أعان بوتفليقة إلى وقتٍ غير بعيد باستخدام القوة لإزاحة كبار الجنرالات؟
وكيف، وأنّ جهاز المخابرات في وقت الجنرال توفيق أرسل تقريرًا حول فساد أخ الرئيس، وكان ذلك التقرير سببًا في جلطته الدماغية التي مكّنت أخاه سعيدًا بشكل مباشر من أن يتولى شؤون الرئاسة، وبعلم القايد صالح وحمايته؟ وهذا موثّق بالصوت والصورة في فرنسا وفي الجزائر، ولو أن السعيد كان إلى جنبه، وكان ذراعه الأيمن وحافظَ أسراره منذ اعتلائه سدّة الحكم سنة 1999، وأثناء تطوّر مرضه في 2005.
كيف تحالف هذا الجنرال الشيطان مجددًا مع عائلة الرئيس في محاولةٍ شيطانية تستهدف قيادةَ الأركان، وليس القايد صالح في شخصه، وإقالتَه من منصبه تحت غطاء شعبي والالتفاف على مطالب الشعب المشروعة واستعادة السلطة بواجهةٍ أخرى، في وقتٍ يبحث فيه السعيد بوتفليقة عن مخرج يحفظ به ماء وجه أخيه؟
لقد نُصب للقايد صالح فخٌّ من خلال إعلان اسمه في قائمة الحكومة الجديدة؛ وبهذه الخطة الشيطانية دُفع لأن يعلن للعلن أنّه انقلب على الرئيس، فتتدخل القوى الأجنبية عبر إعلامها لتعلن أنه انقلب على الشرعية، وتدفع القايد صالح إلى استخدام القوة ومن ثَمّ ارتكاب مجازر تسمح لقوى أجنبية بالتدخل كما تدخّلت في العراق وفي ليبيا... ووو.
وكانت الرسالةُ المنسوبةُ للرئاسة واضحة، ومفادها أنّ هناك قراراتٍ مصيرية ستتخذ قبل إعلان استقالة الرئيس، وكانت من بين القرارات إقالةَ القايد صالح. وقد تحدّثت عن ذلك ولقاءِ اليمين زروال بالجنرال توفيق في تسجيل بتاريخ 31 مارس 2019 منشور على قناتي بموقع اليوتيوب.
مفاد هذا الاقتراح الذي قدّمه الجنرال توفيق للجنرال السابق اليمين زروال: تولّي مرحلةٍ انتقالية، وإظهار أنّ القايد صالح هو من يرفض تسليم السلطة... إلاّ أنّ الجنرال زروال، الذي كان هو نفسه ضحيةَ مؤامرة من طرف الجنرال الشيطان، فهِم اللعبة وعاد إلى بيته، تاركًا الشيطانَ وجنده في حيرة.
نحن الآن أمام وضعٍ خطير لم تعرفه الجزائر من قبل؛ فالقضية لا تخصّ القايد صالح في شخصه، ولا عائلة بوتفليقة، وإنّما تتعلّق بوطنٍ هو الآن بين سلطةٍ حائرة تبحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه، وتحت ابتزاز الدولة العميقة، وشعبٍ ثائر لم يجد من يؤطّره ويجسّد آماله وطموحاته على أرض الواقع.
نورالدين خبابه
02 أفريل 2019

إرسال تعليق