يكتب هذا المقال في قلب الحَراك الجزائري، ليفتح نقاشًا حول علاقة الجزائريين بالانتخابات منذ الاستقلال، وسؤال المرحلة الانتقالية: هل تكفي انتخابات سريعة لحل أزمة عمرها عقود، أم أنها مجرد إعادة تدوير لنمط النظام والدولة العميقة باسم الشرعية الشعبية؟
اعتاد الجزائريون على الانتخابات المزورة وتغييب إرادة الشعب منذ فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر. وقد شارك الجزائريون أفرادًا وجماعات تحت سلطة الاحتلال، اعتقادًا منهم أنهم سيغيّرون القناعات، ويصنعون وعيًا عامًا يساعدهم في دفع الاحتلال للقبول بمطالبهم سياسيًا. وفي نهاية الأمر فلتت زمام المبادرة من أيديهم، وحلّت لغة الرشاش والبندقية والسكين البوسعادي بعد اندلاع ثورة التحرير، ودخلت الجزائر مرحلة استعادة المبادرة عن طريق القوة.
بدأ الجزائريون بعد خروج الاحتلال العسكري مرحلة أخرى في عهد الحزب الواحد، وكانوا يتطلعون من خلالها نحو مستقبل زاهر، ويتنفسون في مرحلة الاسترخاء نسائم الحرية، وعايشوا تلك الفترة بحلوها ومرّها. وكانت الأحداث المختلفة في ولايات الوطن تمهيدًا للانفتاح نحو التعددية الحزبية الملغّمة سنة 1989. أقول الملغّمة، وسأعود إلى هذا المصطلح بعد حين.
رافق الجزائريون منذ خروج الجيش الفرنسي وإلى غاية اليوم كل الرؤساء، وعرف جزء منهم كيف تم اختيارهم، وعلى أي أساس، وكيف حدثت الانقلابات والاغتيالات... وورثت الأجيال، بكل مرارة وأسى، ثقافة الوصاية بتغييب إرادة الشعب وصراعاتٍ مختلَقة قد تأتي على الأخضر واليابس إذا لم يُصحَّح المسار.
كان على من بيدهم الأمر في الجزائر عند شروعهم في بناء الجمهورية أن يضعوا الأسس الصحيحة وألّا يحرقوا المراحل؛ فالمرحلة الانتقالية لم تكن اختيارًا بل كانت ضرورية، وعلى الذين جاؤوا من بعدهم أن يدركوا سبب الإخفاقات التي كانت وراء عدم تطورنا ونهضتنا.
ألم يكن من الأجدر أن تكون مرحلة انتقالية مباشرة بعد الاستقلال؟ فهل حرق المرحلة حقق نهضة في الجزائر وأسس للجمهورية التي كان ينشدها الشهداء؟ ألم يكن من الأجدر بعد الانقلاب على أحمد بن بلة المرور بمرحلة انتقالية؟ وأن تكون مرحلة انتقالية بعد وفاة هواري بومدين لتحقيق انتقال السلطة...؟ وكان حرق المراحل، للأسف، بانتقال نمط التسيير الذي تبناه بومدين ومن معه إلى نمط جديد دون استشارة الشعب مقدمةً لما عشناه سنة 1988؟
ألم يكن الأجدر أن تكون مرحلة انتقالية بعد الانفتاح سنة 1989 الذي تمّ سنّه في عهد الشاذلي بن جديد؟ وكان حرق المرحلة هو ما قادنا إلى المأساة؟
ألم يكن الأجدر بعد إقالة الشاذلي بن جديد أن تكون مرحلة انتقالية تهيئ لوضع جديد؟ وجيء بمحمد بوضياف دون استشارة للشعب... وكان حرق المرحلة هو ما عاشته الجزائر من دموع ومآسي في التسعينيات؟
ألم يكن من الأجدر بعد اغتيال محمد بوضياف أن تكون مرحلة انتقالية تعيد القطار إلى سكته؟ وكان التسيير المرتجل هو ما أسّس لقدوم الرئيس زروال الذي دُفع إلى الاستقالة؟ وكان من الأجدر بعد استقالة اليمين زروال أن تكون مرحلة انتقالية، وكان نقل السلطة إلى بوتفليقة حرقًا لمرحلة أخرى وضاعت على الجزائر فرصة التغيير؟
بعد خلع الرئيس بوتفليقة، الذي بقي جاثمًا على صدور الجزائريين طيلة 20 سنة، أمام قيادة الجيش الجديدة والشعب الجزائري فرصة تاريخية قد تنقل الجزائر إلى نهضة وتحولها إلى سنغافورة في المنطقة، وأحسن، إذا ما أُحسن استغلالها... أو ستعيدها، مع الأسف، إلى احتلال جديد – لا قدر الله – مؤشراته باتت عديدة، في ظل الأطماع الخارجية، وفي ظل دعوات للانفصال، وفي ظل وضع إقليمي خانق إذا ما استمر ركوب الرؤوس والسقوط في اللغم.
أغلبية الشعب الجزائري تتساءل اليوم، ومن حقها ذلك: إلى أين نحن نسير؟ هل نحن نسير نحو جمهورية جزائرية جديدة تحقق آمال وطموحات كل الشعب، أم نحن نتجه نحو تغيير الواجهة وتكرير التجارب الفاشلة؟ من الناس من يتساءل عن كيفية الانتقال: هل ستكون بمرحلة انتقالية أو بانتخابات مباشرة؟ وهل بمجلس تأسيسي أو برئاسة جماعية؟ كل ذلك في ظل أطماع دولية استراتيجية وجيوسياسية لا تخفى على الحاذق، وفي ظل محاولات لاختراق الحراك وتوجيهه، وفي ظل تشويه المفاهيم.
الطرف المنكسر الآن في كيان الدولة العميقة يحاول خلق أجواء مشحونة لكي يستعيد المبادرة التي أفلتت منه، وهناك أقلية تخدمه لأنها متواطئة معه وتخشى أن يستعيد الشعب إرادته، وهناك فئات يتم استغلالها وركوبها واستعمالها لتحقيق أهداف هذه الدولة العميقة، واللعينة بالغباء والجهل... وبذلك تجدد الدولة العميقة رؤوسها بشخصيات توجد في صفوف أخرى، وستنتقم أشدَّ الانتقام من كل من ساهم في قطع بعض رؤوسها أو شمت فيها، وتفتكُّ به فتكًا كبيرًا إذا ما خَلَا لها الجو.
إن أي عاقل يدرك أنه لا شرعية شعبية دون انتخابات نزيهة وشفافة تمثل الشعب بحق. ولكن الانتخابات الشرعية والنزيهة والشفافة تكون في الوضع الطبيعي والعادي، وتمر حتمًا بمرحلة انتقالية تُحضَّر لها البيئة والمناخ والتربة التي تنبت فيها، ويكون المشرفون عليها يتمتعون بالنزاهة والأخلاق ولا يطمحون إلى السلطة.
لا يمكن أن تكون انتخابات حرة وشفافة في ظل بقاء النظام. والنظام أيها السادة ليس الأشخاص والمسؤولين كما يعتقد الكثيرون، إنما النمط الذي يسير عليه الأشخاص والمسؤولون. وقد يتجدد الأشخاص لكن النمط سيبقى، وستبقى الجزائر تدور في حلقة مفرغة. ولذلك نحن مطالبون اليوم بتغيير نمط النظام والانتخابات والتمثيل والنظم التي تشرف وتؤطر هذه الانتخابات، وفق مشروع مجتمع يسع الجميع.
وأن يدرك الجميع أن الذين كانوا مثلًا ضد الانتخابات يوم 18 أفريل و04 جويلية 2019 لم يكونوا في الأصل ضد الانتخابات، وإنما كانوا ضد تزوير الإرادة الشعبية وضد التلاعب بها مرة أخرى؛ لأن إجراء الانتخابات في ظل هذا النظام، مهما كان المنافس، هو تجديد لنمط النظام وليس تغييرًا للنمطية السائدة.
وعليه: على الذين كانوا مع إجرائها عن حسن نية أن يدركوا بأن الذين كانوا يطالبون بمرحلة انتقالية أو بمجلس تأسيسي لهم قراءة أخرى ومفاهيم أخرى تتعلق باحترام المرحلية والتدرج في التغيير. وبدلًا من التخوين، على الجميع أن يعلم أن تغيير نمط النظام في الجزائر لا يتم بين عشية وضحاها، بل يتم في إطار من التوافق وقبول بعضنا البعض ضمن الثوابت ومقومات الشخصية الجزائرية، ووفاءً لمن ضحّوا بأنفسهم من أجل هذا اليوم المشهود... وأن تُصحَّح المفاهيم وتُجَدَّد النوايا.
فمن كان يؤمن بانتخابات 18 أفريل أو 04 جويلية 2019 فتاريخهما أصبح من الماضي، ومن كان يؤمن بنهضة الجزائر فقلبه معلَّق بها طول العام.
نورالدين خبابه
25 ماي 2019

إرسال تعليق