الحراك في الجزائر وتربص الدولة العميقة بالشعب بين البارحة و اليوم !

مقال يحذّر من دور الدولة العميقة في الجزائر، ويربط بين صراعات الثمانينيات والتسعينيات والحَراك الحالي، وكيف يُقصى المعتدلون لصالح المتطرفين.

يحاول هذا المقال قراءة الحَراك الشعبي في الجزائر في ضوء تاريخ طويل من صراعات الدولة العميقة داخل الجيش والحزب والسلطة. يعود الكاتب إلى محطات مفصلية من اغتيال بومدين وأحداث 1988 إلى التسعينيات، ثم يقارنها بما يحدث اليوم من إقصاء للشخصيات المعتدلة وفتح المجال للمتطرفين، محذّرًا من عودة نفس الشبكات التي عطّلت نهضة الجزائر لعقود.
الحراك في الجزائر وتربّص الدولة العميقة بالشعب بين البارحة واليوم!

في ظلّ التعتيم الإعلامي الممارَس على الشرفاء في الجزائر وفي الخارج، سواء عن جهل أو عن علم، من قبل الإعلام العمومي، وكذلك الإعلام الخاص الواقع تحت ابتزاز السلطات الحالية، نتيجة ما قام به من دور لا أخلاقي قبل إزاحة بوتفليقة؛ بغرض منع الخطاب المعارض لتوجّه السلطة الحالية، وبغية فرض سياسة الأمر الواقع على الشعب، لتعيين رئيسٍ منقوص الشرعية يُكمل المهمة التي حدّدتها قيادة الجيش بالطاء والباء والقاف؛

ظهر إعلامٌ معاكس متطرف يجهل الجزائريون في معظمهم من يقف وراءه، وفي أغلبه خارجٌ عن سيطرة السلطة الحالية لاعتبارات مختلفة، ولا يعرف الممارسون له ماذا سيترتّب عما يقومون به ولصالح من يشتغلون...؟

وفي ظلّ الإقصاء والتهميش وغياب الوعي الخاص بمعرفة الحركات الهدّامة التي تتابع أدقّ التفاصيل وتعرف ما لا يعرفه الجزائريون، وتسعى لتطبيق أجندتها وفق مخططاتها لتوسّعٍ جديد؛

وجب التنبيه لبعض المسائل حتى يأخذها من بيدهم الأمر والنهي بعين الاعتبار، وحتى لا يسقط الجهلةُ والسذج وأصحابُ الوطنية المغشوشة في فخاخ المتربّصين والانتهازيين.

دعونا أوّلًا نعود إلى الوراء قليلًا حتى نربط واقعنا وحاضرنا بماضينا القريب، بغية فهم ما الذي جرى ويجري؟ وماذا يجب أن نحافظ عليه، وما الذي يجب اجتنابه؟

بعد استهداف هواري بومدين واغتياله، ذلك الاغتيال الشهير الذي له حسابات بالماضي والحاضر وصراعات لا تزال تُلقي بظلالها إلى اليوم مع تغيير في الأقنعة، ناهيك عن مواقفه من قضايا عربية ودولية مختلفة؛

شرع العربي بلخير – بعدما أُعطيت له الفرصة، ومعه بعض الضباط الذين تربطه بهم علاقة فكرية وحركية ومعروفون بالأسماء والولاء – في مخططهم لتهيئة الظروف لاستعادة مفاصل الدولة الجزائرية في الوقت المناسب، بعدما قطع هواري بومدين ومن معه أشواطًا كبيرة في إعادة السيادة الكاملة للجزائر في كل المجالات.

واتضح مخطّطهم في إرباك الشاذلي بن جديد بأحداث الجامعة المركزية، مستغلّين غطاء الإسلاميين، وفي أحداث تيزي وزو الشهيرة، وكان الهدف من ذلك هو ضرب الخناق على الشاذلي بن جديد لاستهداف بعض الضباط الوطنيين الذين كانوا إلى جانب هواري بومدين والمتمركزين في قيادة حزب جبهة التحرير وقيادة الجيش، وتمّ إقصاؤهم فيما بعد بتُهم مختلفة، ومنهم الجنرال بلوصيف وشخصيات أخرى...

وكان ذلك مقدّمة لأحداث أكتوبر سنة 1988 التي كانت كغطاء آخر للاستمرار في القضاء على الوطنيين في قيادة الجيش، حتى تخلو الساحةُ للدولة العميقة كي تسيطر على دواليب الدولة. وكانوا قد شرعوا في تعطيلها بدءًا بالتنكر لسياسة هواري بومدين في مجال التصنيع والتكوين، وإيقاف مشاريع تُعدّ نهضوية.

بعد أن دُبِّرت مكيدةٌ لقاصدي مرباح وإبعاده من جهاز المخابرات الذي كان ولا يزال يعتبر هو النخاع الشوكي للدولة، كونه يمتلك ملفاتٍ كبيرة، ومنها ملف بوتفليقة على وجه التحديد، وقد تمّ اغتيالُه بعد أن حُضِّر الغطاء له، وبعد إبعاده من الحكومة، خلا الجوّ لجماعة العربي بلخير.

جاء دورُ الزجّ في بداية التسعينيات بحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بهدف عرقلة مشروع الإصلاحات الذي كان يعتبر حاجزًا في طريقهم وسيقضي عليهم، والذي بدأ فيه مولود حمروش تحت رئاسة الشاذلي بن جديد، باستحداث صراع معه لخدمتهم. وكانت الأغلبية في ذلك الوقت – وأنا واحدٌ منهم – لا تعرف هذه المعلومات الحالية التي جاءت نتيجة تجارب وتراكمات معرفية وفهمٍ للأزمة الجزائرية والأحداث من عدّة زوايا.

فُسح المجال للخطب التحريضية التي وصلت حدّ إعلان الجهاد، لاسيما في ملعب 5 جويلية، حيث تزامنت تلك الخطب مع ما يجري في العراق وأفغانستان وفلسطين، وكانت تلك الخطب التحريضية تتناغم مع رفض بقاء السلطة، متزامنةً مع جهلٍ تام لدى شرائح من الشعب بما يجري من تحوّلات دولية، وكان ذلك يغذّي حالة الاستياء والفقر والحرمان والظلم الاجتماعي والفساد الأخلاقي والابتعاد عن القيم الأخلاقية...

والحيف الذي مارسته السلطات المتعاقبة، وحالة التسيّب في تسيير شؤون البلاد، ونقص مواد التغذية وكذلك العلاج والنقل والتسرّب المدرسي، وكذا سطوع الفضائيات الذي أحدث هزّات كبيرة داخل الأسرة الجزائرية نتيجة الغلق الممارَس من قبل التلفزة الواحدة والحزب الواحد، وصعود العملة الصعبة التي ساهمت في تكوين الطبقية، يدفع إلى التغيير دون اكتراث بالعواقب.

مهّدت تلك الظروف لإشعال الفتنة التي استغلّتها الدولة العميقة لصالحها ووظّفتها لإزاحة رؤوس التيار الوطني من المشهد بالاستيلاء كليًا على السلطة بحجّة حماية الدولة، واستخدمت بعض الشخصيات كغطاء، ومنها مساعدية. هذا الأخير حوكم من قبلُ أيام هواري بومدين والحكومة المؤقتة وسُجن، وكان من بين من أعادوا مساعدية إلى الواجهة أحدُ من شاركوا التسعينيات إلى جانب خالد نزار وسعيد سعدي وعلي هارون... إلخ، «الرائد عزّ الدين»، وهو الذي يساند اليوم لخضر بورقعة الذي له علاقة بصراعات الماضي. هذا الأخير التحق بعد أكثر من عامين من انطلاق الثورة بجيش التحرير، وكان في الجيش الفرنسي، هذا الذي يتهم جيش الحدود اليوم بالميليشيات ويتهم مصالي الحاج بالخيانة... إلخ.

للعلم، إنّ الرائد عزّ الدين – وباعترافه – يقول إنه قضى عامين كاملين في محاربة المصاليين إبان الثورة قبل أن يوجّه سهامه لجيش فرنسا.

وكان أحد الجنرالات الذين ساهموا في الانقلاب على الشاذلي سنة 1992 هو صهر كريم بلقاسم.

ومع الذي حصل من مجازر في التسعينيات، ومن تكاليف وأعباء لا نزال ندفع فاتورتها إلى الآن؛

سارع بعض المخلصين في الجيش وبعض الساسة إلى إيجاد مخرج يخفّف من فاتورة المأساة، وبدأوا في اتصالات مع بعض المجاهدين الذين مهّدوا لإعلان الهدنة مع الجيش الإسلامي للإنقاذ أيام اليمين زروال، واستطاعوا بذلك سحب البساط من الجماعات المسلحة الأخرى.

إنّ إجراء الانتخابات في بداية التسعينيات، والتي أفرزت ثلاثة تيارات هي من تتحكم في المشهد مع انقسامها، وهي: التيار الوطني، الإسلامي، العلماني؛

تمّ سجن قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتغييب كل الشخصيات التي كان يمكنها أن تخفّف من حدّة الأزمة، وفُسِح المجال للمتطرفين، إلى غاية أن قُتل عشرات الآلاف...

اليوم، وفي ظلّ الحَراك، يحدث نفس الشيء، وهو تغييب الشخصيات التي يمكن لها أن تُفرمل الأزمة، وتشارك في حلّها بمشروع مجتمعٍ جديد يحقق حلم الشرفاء والمخلصين؛

وهذا من خلال فسح المجال – للأسف – لقاصري النظر والمتطرفين والجهلة بدوائر الصراع والانتهازيين وأصحاب سبعة أوجه؛ ليس من خلال موالاتهم وتشجيعهم، بل بخلق الأرضية لهم واستغلالهم. فعندما تُقصي شخصياتٍ مهمة يمكن لها أن تؤسّس لخلق مناخ معتدل وحوار جاد، فأنت تؤسس للمتطرفين. وأعطيكم أمثلة مع ذكر الأسماء:

تمّ إقصاء مهري، حمروش، أحمد طالب، يحياوي، آيت أحمد، حشاني... النتيجة: ظهور حطّاب، زوابري، زيتوني، معطوب، مهني... إلخ.

نفس الإقصاء في ظلّ الحَراك: إقصاء جمعية العلماء، حمروش، أحمد طالب... إلخ. النتيجة: ظهور إبراهيم لعلامي، عمار البيري، أمير ديزاد... إلخ.

ولذلك: إذا لم تُقطَع رؤوسُ الدولة العميقة المختلفة – التي كنّا أفردناها بمقال، وكنّا أوّل من تحدث في الموضوع على إذاعة «وطني» لما كان توفيق من يتحكم في المشهد – فإنها ستعود ولو بغير توفيق، وستستعيد مراكز القرار التي تتحكم في مفاصل الدولة الجزائرية، وستعطل نهضتها، وتُضَيّع فرصة أخرى للتغيير لعقود، وربما ستدفع بالجزائر إلى حمّامات دم جديدة مؤشراتها عديدة... وهذا بسبب الاختراق والتضليل.

فيا أيها الشرفاء في الجيش، ومن بيدكم الأمر وتسعون لرفعة الجزائر: إنها فرصتكم التاريخية؛ فإما ستدخلون التاريخ من أبوابه الواسعة بتفويت الفرصة على نظام الدولة العميقة، وإمّا ستُرمَون في نفايات التاريخ.

نورالدين خبابه  
30 نوفمبر 2019

إرسال تعليق

[facebook]

أرسل رسالة نصية

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget