يناقش هذا المقال موقع المؤسسة العسكرية في رسم مسار الانتخابات الرئاسية في الجزائر، وعلاقة ذلك بالحراك الشعبي الرافض لإعادة إنتاج نفس النظام. يستعرض الكاتب تاريخ صناعة الرؤساء في الجزائر منذ الاستقلال، ومسار تزوير الانتخابات، ودور الدولة العميقة، ليطرح سؤالًا جوهريًا: هل يمكن لحراك يطالب بدولة مدنية أن يقبل بانتخابات تُديرها قيادة الجيش؟
الانتخابات الرئاسية في الجزائر بين الحراك الشعبي وقيادة الجيش!
لا أحد من الجزائريين العاقلين قال إن الرئيس الأول «للجمهورية الجزائرية الناشئة سنة 1962» أحمد بن بلة تمّ انتخابه بطريقة نزيهة وشفافة، وفي ظلّ تنافس شريف مع منافسيه... وفي المقابل: لا يُنكر أحدٌ ممن عايشوا بداية الاستقلال أن فرحات عباس هو أول من فاز بالانتخابات في المجلس التأسيسي الأول قبل أن يُدفَع إلى الاستقالة.
لا أحد من العارفين والعارفات بتاريخ الجزائر، وممّن عايش الستينيات، يُنكر أن الرئيس هواري بومدين لم يصل إلى السلطة سنة 1965 إلا بانقلاب عسكري...
لا أحد من الجزائريين يُنكر أن الرئيس الشاذلي بن جديد تم اختياره سنة 1979 من قبل قيادة الجيش لحسابات سياسية، وعلى رأس من اختاروه مديرُ المخابرات آنذاك قاصدي مرباح...
لا أحد من قادة الأحزاب والمسؤولين المتعاقبين أنكر – بالأدلّة – أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم تفز بالانتخابات البلدية سنة 1990 والانتخابات التشريعية سنة 1991...
لا أحد من الجزائريين يُنكر أن محمد بوضياف أتت به المؤسسةُ العسكرية سنة 1992، وعلى رأسها إسماعيل العماري، بعد إلغاء الانتخابات والانقلاب على الشاذلي.
لا أحد من الجزائريين يُنكر أن اليمين زروال أتت به المؤسسةُ العسكرية سنة 1994 في ندوة الوفاق الوطني، ثم دُفع إلى الاستقالة.
لا أحد من رجال الدولة الجزائرية يُنكر أنه تمّ تزويرُ الانتخابات التشريعية سنة 1997 بعد صناعة الأرندي، والانقلاب على شيخ السياسيين عبد الحميد مهري وتخوينِ أصحاب العقد الوطني.
لا أحد من المرشحين العارفين بمراكز صناعة القرار في الجزائر يُنكر أن عبد العزيز بوتفليقة سنة 1999 جاءت به قيادةُ الجيش، وزكّاه نحناح بعد أن رفضوا ملفّه لغياب بطاقة المجاهد، مع أنه شارك معهم سنة 1995.
فمسألة الانتخابات في الجزائر وتزويرها، والغدرِ بالرجال من قبل النظام، شيءٌ معهود، وأصبح تلازمًا منطقيًا ملتصقًا بالسلطة. ولم تتكوّن قناعةٌ ووعيٌ عامّ بنزاهة السلطات والانتخابات بعد، وحتى الظروف الطبيعية لم تنشأ؛ ليس من جانب الإمكانيات والأدوات، وإنما هناك برمجةٌ للتزوير، ووعيٌ زائف بخصوصها، وضميرٌ غائب...
والفراغُ الروحي الرهيب الذي تعيشه الجزائر ترتّب عنه وضعٌ نفسيّ كارثي، لاسيما بعد تجميد عمل المصلحين والدعاة، وتدنّي مستوى التربية، والتأثير السلبي للإعلام بمختلف أشكاله... والطامةُ الكبرى: انتشارُ المخدرات بشكلٍ لم تعرفه الجزائر على مرّ التاريخ.
فالحراك في الجزائر، بالأساس، انطلق رفضًا لتزوير الانتخابات وفرضِ العهدة الخامسة، ووضعِ حدّ لحالة التيهان والفساد والتسيّب الحاصل في أجهزة الدولة، لاسيما بعد الفضائح المتكاثرة، آخرها غلق باب البرلمان بالأقفال، وإقالة الأمين العام لحزب جبهة التحرير الذي خَلَف من قبله بالهاتف... إلخ.
وكان الذهاب إلى الانتخابات أمرًا مؤكّدًا ومحسومًا بعد تقديم عبد العزيز بوتفليقة كمرشح، وتحديدِ موعد الانتخابات في أفريل، لأن أصحاب القرار أرادوا ذلك.
وأيّد القرارَ قائدُ أركان الجيش قايد صالح، وتحذيراته موثقة ومنشورة في بيانات الجيش حول إجراء الانتخابات في موعدها المحدّد، ووقوفُه إلى جانب عبد العزيز بوتفليقة غير خافٍ على أحد منذ 20 سنة، ناهيك عن اتهام الحراكيين بالمغرّر بهم.
فمسألة إقناع الشعب الجزائري بجدوى الانتخابات، مع بقاء نفس الأساليب والعقليات ونفس الوجوه بعد 20 سنة من حكم بوتفليقة، وتقديمِ عدّة مرشحين كانوا من المساندين له، مسألةٌ تحتاج وقفةً متأنّيةً وفاحصة، وصحوةَ ضمير لدى من يتشدّقون بـ«الوضع الجديد» ويحذرون من عواقب عدم الذهاب إلى الصناديق... وكأنّ قيادة الجيش ليست هي من تمسك بزمام الأمور؟
إنّ الانتخابات النزيهة والشفافة في الجزائر ثقافةٌ وسلوكٌ حضاري يجب غرسه من خلال الأفعال، ومن خلال تربية النشء، ومن خلال تكافؤ الفرص، ومن خلال التنافس الشريف على خدمة الوطن، وليس من خلال الولاءات الضيقة، والمصالح الآنية، والإغراءات وشراء الذمم، والجهوية والحسابات، وروحِ الانتقام وتصفية الحسابات...
فالحراك في الجزائر، بعد 9 أشهر من انطلاقه، يُجمِع المشاركون فيه أنه لا مخرجَ إلا بانتخاباتٍ حقيقيةٍ تُنهي عصرَ تعيين الرؤساء من قبل قيادة الجيش، وتغييبِ سلطة الشعب، وإبعادِ مؤسسة الجيش بشكل نهائي عن الولوغ في العفن السياسي، وعن التجاذبات التي لا تخدم وحدة الوطن ووحدة الجيش...
كيف ورئيس الأركان يخطب في الشعب كل أسبوع من الثكنات العسكرية، التي هي مخصّصة بالأساس إلى الجيش الجزائري، ويحشر أنفه في السياسة التي يحرّمها على غيره من الضباط، متجاوزًا دوره ودور رئيس الحكومة ورئيس الدولة، ويتحدث في كل الاختصاصات، وكأنه ناطق رسمي باسم الحكومة أو الرئاسة ومخوّل لذلك، رغم أن مستواه محدود ومعروف لدى الجميع، يظهر من خلال فلتات كلامه، وتركيب التسجيلات وتقطيعها عند كل عبارة...
إنّ الدولة العميقة لا تزال ترقب الحراك وتعمل على شيطنته، ودعاةُ التقسيم يتابعون عن كثب كلَّ عثرة لاستغلالها، وينتظرون ساعة الحسم ليحوّلوا نضالكم إلى جسرٍ يعبرون من خلاله إلى الدولة التي يحلمون بها.
فيا أهل الحراك، أنتم أمام مفصل تاريخي، وعلى مسافة من تحقيق حلم يؤسّس لثقافة جديدة وجزائر جديدة، تبدأ بانتخابات تأتي ثمرةَ توافقٍ وطني...
فلا تخيّبوا أمل الأمة، ولا تركنوا للظَّلَمة، واصبروا على الابتلاء، وواصلوا في نضالكم الذي سيسجّله التاريخ رغم أنف الحاقدين، وستبقون أحياءً على مرّ العصور، تذكركم الأجيال في الكتب والدراسات. أمّا الذين نكَثوا عهدهم وخانوا ثقة الشعب وغدروه من الخلف وخذلوه واعتبروه قاصرًا، ولا يزالون يسخرون كل يوم، فلن يلتفت إليهم التاريخ، وسيتمّ نسيانهم بمجرد سقوط أسيادهم الذين يعملون ليل نهار على فرض سياسة الأمر الواقع من خلال تجريدكم من سلاح الشرعية التي أنتم مصدرها.
نورالدين خبابه
28 نوفمبر 2019

إرسال تعليق