الحراك الشعبي الجزائري الذي نريد!

مقال يحدّد ملامح الحَراك الشعبي الذي يريده الكاتب للجزائر: حراك علمي وثقافي وحضاري جامع، لا فلكلوري إقصائي يخدم الأحقاد والأجندات الأجنبية.

يوضح هذا المقال ملامح الحَراك الشعبي الذي يراه الكاتب مناسبًا للجزائر: حَراكٌ علمي وثقافي وحضاري واقتصادي يفتح ورشات للنقاش والعمل الجماعي، ويبتعد عن الفلكلور والشعارات الإقصائية والتخوين وخدمة الأجندات الأجنبية. كما يستعيد جذور مصطلح «الحَراك» نفسه، وكيف استُخدم مبكرًا لتفادي شيطنة الاحتجاجات وتكرار مآسي التسعينيات.
قبل أن أتحدث عن إثراء الحَراك في الجزائر، لا بدّ من مقدّمة، حتى ولو كانت مؤلمة لبعض الانتهازيين وراكبي الأمواج، لاسيما وأنها تذكّرهم بماضٍ قريب، كانوا فيه أداةً للقتل وتشريد أسر ومناطق بأكملها، ومنهم من حقّق أموالًا على حساب آهات الآخرين. وأيُّ مهنةٍ وأيُّ شرفٍ لمن يتغذّى من الدماء والدموع!

كنتُ – ولا فخر – من الداعين إلى تبنّي المصطلح الجديد «الحْـــَراك»، وهي كلمة مُشتقّة من الحركة، في الندوات المتعلقة بالتغيير في الجزائر التي كنت أديرها، بدل مصطلح الثورة، وفي كتاباتي وتعليقاتي...

وذلك لتفويت فرصة شيطنة الاحتجاجات التي استؤنفت في جانفي 2011. وكان جزء من تلك الاحتجاجات مفتعَلًا لخدمة الدولة العميقة وأهدافها، كافتعال جزء من أحداث أكتوبر 1988، للتحكّم في مسار الاحتجاجات، والقيام بتغييرات لا تُلبّي في الأصل طموحات الشعب، بل تهدف إلى منع التغيير وتنفير الشعب من خلال التخويف النفسي باستعمال المأساة، واستبدال الواجهة.

وكلّنا يذكر تكليف الجنرال تواتي بمهمة «المشاورات»، وذلك السبت الهجين الذي صعد فيه سعيد سعدي فوق سيارة الشرطة في إحدى الساحات بالعاصمة، وأصبح يُلقَّب بـ«سعيد Samedi».

كنت من الناقدين لما سُمِّي بالربيع العربي، وأتحدث عن الاختراق الذي حصل لإجهاض عملية التغيير، وكنت أربط ذلك الاختراق بأحداث سبتمبر 2001، لاسيما وأن ما أُطلق عليه «الربيع العربي» استهدف دولًا بعينها. وكنت أحذّر أصحاب التوجّه الإسلامي من التقدّم الصفوف، ومن مغبّة العمل المسلّح الذي سينجم عنه خراب في ليبيا وغيرها من الأوطان، ويكون مقدّمة لاحتلال أوطان، وأحذّر من تهيئة تدمير الجيوش، لاسيما الجيش المصري والسوري والليبي واليمني...

الذي إن حصل فستُدمَّر دولةٌ بعد أخرى... وكنت أحذّر من تجسيد فكرة «الشرق الأوسط الجديد» بأيادٍ عربية، وفي المقابل كنت أعمل من خلال الحوارات للوصول إلى وعي جماعي.

وأردّد مصطلح الحَراك السلمي يوم أن كان بعض من يحاولون تزعم الحَراك هذه الأيام يساندون حَمَلة السلاح في ليبيا ويلقّبونهم بـ«المجاهدين»... وينعتون غيرهم بالمثبِّطين والخونة... وكان منهم من لا يرى حرجًا في قدوم حلف الناتو لإنقاذ شعب ليبيا المسكين، ومنهم من يمدّهم بالفتاوى ويحرّش بينهم ويشهِّرهم في شتّى وسائل الإعلام... ومنهم من وصل إلى درجة التنسيق مع جهات كانت تحت حماية حلف الناتو، وتحت حماية أوباما وساركوزي، وبتغطية قنوات عربية كبرى، فيما كانت التُّهَم تلاحقنا مع بساطتنا...

ووصل الأمر إلى منع حصة سجّلتها حول كتابي «المصالحة الجزائرية» على قناة عربية، بعد اتصال قام به أحد العملاء الذي كان وقتها يُشعِل لهيب محرقة سوريا العزيزة ويرتزق من آهات السوريين.

كيف أدعم الثورة المسلحة في ليبيا أو في غيرها من البلدان العربية الشقيقة والمسلمة، وأنا أدعو إلى المصالحة الحقيقية الشاملة بعد حلّ النزاعات؟ لأن المصالحة التي كنت ولا أزال أدعو إليها هي مشروع مجتمع جديد، ليس في الجزائر فحسب، بل في المغرب الكبير، وفي الوطن العربي... إلخ.

وكيف وأنا أدعو إلى جمهورية جديدة في الجزائر، وقد خصّصت لها قسمًا كاملًا في كتابي الأول الذي صدر سنة 2014 وشرحتُ خيارات التغيير، ووضعتُ الخيار الأول وهو الانتخابات الرئاسية كخيار أمثل، وكتابي الثاني الذي يحمل عنوانها، والمستهزئون والضاحكون والشامتون والحاقدون – الذين أصبح منهم من يردّد مصطلحاتي – لا يزالون أحياء؟

وهل من المنطق أن يُطعَن الأشقاء من الخلف في ليبيا ومصر وسوريا واليمن... وهم من وقفوا إلى جانب الشعب الجزائري أيام محنته الكبرى خلال الاحتلال؟ أليس من الأجدر أن نقف معهم ونصلح بينهم ونعينهم، أو على الأقل نلتزم مبدأ الحياد؟

إنّ الحَراك الشعبي السلمي – الحراك العلمي، الثقافي، الفكري، الحضاري... الاقتصادي، الفلاحي، الرياضي، السياسي، الصناعي، التجاري، السينمائي... الحراك التطوعي، الحراك التضامني، الجمعوي، حَراك اليقظة الجماعية، الحراك الجواري، حَراك الاستشراف، حَراك التنمية، حَراك البيئة، حَراك الصحة، حَراك الوحدة... إلخ – الحَراك الحواري الذي يفتح ورشات كبرى للنقاش والتشاور والعمل الجماعي، بغية إشراك الشعب والنخب المختلفة للنهوض بالوطن على كل الأصعدة... هو الحراك الذي نتبنّاه ونعمل على تجسيده في الجمهورية الجديدة التي نحلم بها، جمهورية الجميع...

وليس حَراك الأهازيج المليئة بالصخب والسخرية والتهكّم، والإهانة للقضاة والشرطة والجيش والإعلام والأئمة، حتى وإن أخطأوا... ولا حراك الفلكلور والتعرّي، وحراك التفرقة وتصفية الحسابات والطعن في الثوابت، وحَراك نشر الضغائن والأحقاد وقمع الآراء المخالِفة، وحراك خدمة أجندات أجنبية... إلخ.

إنّ الحَراك الذي ندعمه ونتبنّاه هو الحراك الأصيل الذي لا يتبنّى الجحود، ولا يتبنّى الإقصاء والتهميش، ولا يتجاوز المجهودات الإيجابية التي بُذلت على مرّ السنين لكل فئات المجتمع، بمن فيهم من كانوا في النظام، حتى ولو كنّا معارضين لهم، ولا يخون قادة الثورة، ولا يتجاوز تضحيات الرجال والحرائر التي بُذلت للتقليل من محرقة التسعينيات، من دعاة وشخصيات وطنية ورؤساء أحزاب... ولا يتنكّر للدماء التي سُقيت بها الجزائر من أجل حمايتها ورفعتها.

وكيف لعاقل أن يُخوِّن رجالًا مهّدوا لهذا الحَراك الذي نحياه، من تعليم وتوعية وبيان ونشاط وتوجيه صحيح وإعلام ونشر لثقافة الحوار... ويصنع من مجاهيلَ وانتهازيين ووصوليين أبطالًا ومقاومين؟

ليس من المنطقي أن يستورد شعبُنا الجزائري ثورةً مهما كان نوعها، وشعبُنا صانعُ ثورة التحرير. وكيف نستورد الأفكار ونحن نمتلك خزانًا من الأفكار والتصورات؟ وليس من المنطق أن يستورد شعبُنا نظامًا آخر، وهو الذي استطاع أن يفرض على أمريكا الجزية يوم أن كان الأسطول البحري يجوب البحر الأبيض المتوسط، ويفرض واقعًا على حلف الناتو وفرنسا بوسائل بدائية وبنادق صيد أيام حرب التحرير.

وكيف لمن كانوا بالأمس يحاولون نقل «ثورة البوعزيزي» الذي أحرق نفسه في تونس إلى الجزائر، أن يُحدّثونا اليوم عن الوعي وعن الأفكار؟

تكفينا شجاعة أبطالنا وحرائرنا عبر مرّ التاريخ، تكفينا دراسة مشايخنا وأساتذتنا، لنستلهم من سيرهم ونبلهم وبسالتهم طاقةً نستشرف بها المستقبل ونصنع بها الأمجاد. لقد اكتوينا بنار الفتنة، فليس من المنطق ولا من الحكمة تكرار المأساة باتّباع أناسٍ رؤوسهم مقفلة، أثبت الواقع في عديد من المرّات تهوّرهم وقِصَر نظرهم وتناقضهم وتعصّبهم، ونشرهم للأحقاد والضغائن. إنهم مشاريع تشبه تلك التي استُعملت كوقود للمحرقة والفتنة التي مرّت بها الجزائر، مع تغيّر الوسائل والألقاب.

إنّ الحراك الذي نتبنّاه ونعمل له هو الذي يتطرّق إلى جذور المشكلات في الجزائر التي حدثت قبل ثورة التحرير وبعدها، ويجد الدواء الشافي لإنهاء الأزمة واقتلاعها من الجذور، وليس الذي يتحدّث عن الأعراض والسطحيات أو يكون أداةً لعودة العصابة من أبواب أخرى.

كيف يتحدث الناس عن نظام بوتفليقة ولا يتحدثون عن تداعيات الاحتلال التي دامت أكثر من قرن؟ وكيف يتحدثون عن بوتفليقة ولا يتحدثون عمّن جاؤوا به وساندوه؟ وكيف لا يتحدثون عن الصراعات حول الحكم التي تمتدّ إلى ما قبل الثورة ومهّدت لمحرقة التسعينيات؟

نريد حَراكًا شعبيًا واعيًا، حراكًا تشارك فيه كلّ الطاقات في الداخل والخارج بالأفكار وبالحوار وبالمبادرات الجامعة، وأن يكون هذا الحَراك جزائريًا وورشةً كبرى، وبوتقةً تلتقي فيها كل التيارات مهما كانت الاختلافات، لشحذ الهمم وتجديد العهد مع الشهداء وبناء الجزائر الجديدة التي حلموا بها... لا حراكًا يقف مع مَن حطّم جدارًا أو كسر صندوق انتخاب أو رفع لافتةً أو راية، ويغمض عينيه عن أشخاص أكلتهم المعاناة.

نورالدين خبابه  
09 مارس 2020

إرسال تعليق

[facebook]

أرسل رسالة نصية

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget