موقفي من دستور 2020 في الجزائر ودستور الجزائر الجديدة المنشود

مقال يوضّح موقف الكاتب من دستور 2020 في الجزائر، ويرى أنه امتداد لدستور 2016 ولا يعبّر عن «الجزائر الجديدة»، ويدعو إلى حوار مجتمعي وعقد اجتماعي جديد ق

يأتي هذا المقال في سياق الجدل الذي رافق دستور 2020 في الجزائر، الذي قدّمته السلطة باعتباره لبنة «الجزائر الجديدة»، بينما يراه جزء واسع من الجزائريين مجرّد تعديل شكلي لدستور 2016 لا يمسّ جوهر الأزمة. بين شعارات التغيير التي رفعتها موجات الحَراك الشعبي منذ 22 فيفري 2019، وواقع النصوص الدستورية التي صيغت في ظروف استثنائية، يحاول الكاتب أن يوضّح موقفه من هذا الدستور، وأن يطرح ملامح «دستور الجزائر المنشودة» القائم على حوار مجتمعي واسع وعقد اجتماعي جديد، بدل الاكتفاء بترقيع من داخل منظومة لم تتغيّر.
من خلال تجربتي المتواضعة كمناضل من أجل جزائر جديدة يحدوها الأمل ويسودها العدل والحق والقانون، لي الحق أن أدلي برأيي في قضايا مختلفة تهم بلادي، لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بالدستور. وقد عبّرت عن امتعاضي عند التلاعب به عدّة مرات.

من خلال مطالعتي لموادّ الدستور الذي يُراد تعديله مرة أخرى، لاحظت أن الدستور هو نفسه دستور 2016، سواء صيغت بعض المواد أو أضيفت أخرى، ممّا يطرح عدّة علامات استفهام، لاسيما وأنها أتت في ظروف خاصة تشهدها الجزائر، والوضع الإقليمي وحتى الدولي… وليس دستور الجزائر الجديدة الذي نطمح إليه.

لقد وعد عبد المجيد تبون الشعب الجزائري، من خلال الالتزامات التي قطعها على نفسه وسماها بالالتزامات الـ54 تيمّنًا بثورة 54، وقد حدد 1 نوفمبر للتصويت على الدستور، ممّا يوحي للناس أنه من رجال نوفمبر. ولكن، للأسف، لم يحصل ما وعد به، لاسيما رفع الظلم عن الذين مستهم العصابة التي يزعم أنه ضدها، حتى لا أقول شيئًا أكثر.

من خلال مطالعتي المتواضعة لبعض الكتب التي تتعلق بالتاريخ، وشهادات الفاعلين في الثورة الجزائرية، وسماعي لشخصيات مختلفة، وحواراتي مع شخصيات متنوّعة، منها ما هو مُذاع ومنها ما هو مسجّل، ومن خلال قراءة للواقع الجزائري بموضوعية ودون تشنّج، ودون قفز على الحقائق، ومن خلال هجرتي الطويلة وعيشي بالمهجر، ودراستي في الجامعة، ومن خلال معايشتي للمأساة الجزائرية التي ضربت عمق الجزائر خلال التسعينيات، ومراقبتي للوضع من الخارج لسنوات طويلة بعيدًا عن الضغوط التي كانت تمنعني من الرؤية الصافية والنقيّة… إلخ.

تيقّنت أن الأزمة الجزائرية عميقة جدًّا وجذورها ضاربة في أعماق التاريخ، بدليل وجود شعارات داخل الحَراك حتى اليوم، وصور وهتافات وأهازيج لها علاقة بصراعات الماضي، ومنها على سبيل المثال: إعدام شعباني، عبان رمضان، كريم بلقاسم الذي نعيش ذكرى اغتياله في ألمانيا بعد أيام.

وتيقّنت أن التراكمات السلبية من خلال التسيير المرتجل والعشوائي فرّخت وتفرّعت وأينعت، لاسيما وأن محرقة التسعينيات لم تُعالَج بعد، وأنتجت أزمات أخرى مسّت كل القطاعات، بما فيها قطاع الشؤون الدينية. وأصبحت الأزمة الجزائرية تشبه أنبوبًا قديمًا مثقوبًا، يتم إصلاح عطبه بين الحين والآخر، ويقع في مكان استراتيجي… أو بناءً هشًّا تسكنه عائلات، يتم تزيينه مرة وأخرى؛ فإما تغييره تغييرًا جذريًا وخلاص الجزائر بذلك، وإما انفجاره في أي لحظة، أو انتظار سقوط السقف وهلاك الجميع!

من قال إن الصراع أو الأزمة الجزائرية قانونية أو دستورية، وإن حلها دستوري أو قانوني، فأقل ما يمكن أن نقوله عنه – وبمنتهى السكينة – أنه لم يقم بتشخيص الوضع تشخيصًا دقيقًا، أو لا يعرف طبيعة النظام والصراعات.

الحلّ معقّد، ولا يقدر عليه شخص ولا مجموعة من الناس مهما بلغ حبهم للجزائر وإخلاصهم، وإنما لابد من إشراك الجميع في التغيير، من خلال مشروع مجتمع لبناء الجزائر الجديدة، وذلك بفتح ورشات متنوعة، كلٌّ حسب اختصاصه، والتعود على العمل الجماعي الذي ينقصنا، للأسف، في الجزائر، بعيدًا عن الزعامات والمشيخة.

وعليه، فإن الحديث عن الدستور لجزائر جديدة قبل الحوار الصادق والشفاف والمسؤول، الذي يهدف إلى تغيير حقيقي، والنقاش حول مشروع المجتمع الذي يسع الجميع وينهض بالجزائر على كل الأصعدة، والمصادقة على ميثاق يكون عهدًا وثيقًا ومرجعًا للأجيال اللاحقة، واتخاذ إجراءات تهدئة والمساهمة في خلق مناخ للتخفيف من حدّة الاحتقان… يشبه حديث الرجل عن قسمة بيت بين الورثة قبل تشييده!

إن السيول البشرية التي خرجت أثناء الحَراك المرسم بتاريخ 22 فيفري 2019 يمكنها أن تعود في أي لحظة، لأن التغيير لم يحصل. فمن خرجوا للشارع لم يكن مطلبهم الدستور ولا تغيير زيد بعمر من الناس، بل كان مطلبهم واضحًا وصريحًا، وهو رحيل النظام واقتلاع العصابة من الجذور، ولا يمكن تنظيف شيء بالقذارة والأوساخ.

وإذا اقتنع الناس بضرورة عدم ترك الفراغ وإعطاء مهلة لعبد المجيد تبون، فإن ذلك ليس ضعفًا من الشعب، بل هو مسايرة للمعطيات الجديدة التي أصبحت تُرى بالعين المجردة، لاسيما بعد خلع بوتفليقة من طرف قيادة الجيش.

إن تسرّع أصحاب القرار في تعديل الدستور – الذي لا يُعتبر أولوية، لاسيما وأنهم كانوا يبحثون سنة 2019 عن مخرج دستوري يحفظ وحدة البلاد بعد توريطهم من خلال المستنقعات والأوحال التي وضعتها العصابة، كما صرّحوا بذلك في بياناتهم – أعاد الشكوك لدى الغالبية، التي لم تُستشَر ولم تُشارِك لا في النقاش حول تشكيل الهيئة التي أشرفت على التعديلات، ولا على مسودة الدستور. بل أصبح من ساندوا عبد المجيد تبون بالأمس القريب يرفضون تعديل الدستور، ليس قبولًا بدستور 2016 والعودة إلى الماضي، وإنما لأن المخرجات التي جاء بها دستور 2020 كانت معاكسة لطموحاتهم نحو جزائر جديدة، ومخيّبة لآمالهم.

إن التصويت بـ"نعم" على الدستور المعدَّل هو توقيع على استمرار النظام دون بوتفليقة لعقدٍ آخر، وربما استبدال تبون في أي وقت لاحق وبقاء النظام، والدوران في حلقة مفرغة، وقد يؤدّي ذلك إلى الإيمان بخيارات أخرى غير خيار الانتخابات الآمن.

والتصويت بـ"نعم" هو قبول بشرعية الحكم، وإذعان للأمر الواقع الذي فرضه النظام، وتفويت فرصة تاريخية على الشعب الجزائري، حلم بها كل المخلصين والشرفاء، بل شعوب شقيقة وحرة.

إن مقاطعة الدستور دون طرح بديل يُرغم النظام على المراجعة أو التنازل هي خدمة مجانية للدولة العميقة التي بدأت تستعيد مواقعها، لاسيما منذ وفاة قايد صالح التي لا تزال تطرح تساؤلات.

إن التصويت بـ"لا" معناه أن الشعب يرفض التغيير خارج إرادة الصندوق، وهو مصدر السلطات. ويجب التفريق بين التصويت على الاستفتاء وبين الانتخاب على حزب أو شخصية، وبين التسليم بالأمر الواقع والتعامل معه. ولكن يجب أن يقترن التصويت بـ"لا" بعملية تعبئة وتحسيس شاملة، وإقناع الأغلبية بالعودة إلى الحَراك والتعبير في المسيرات برفض الدستور.

إنّ دستور الجزائر الجديدة الذي نريده يجب أن يسبقه حوار داخل المجتمع وفي المؤسسات، تُؤطّره شخصيات نظيفة ونزيهة، يؤسِّس لعقد اجتماعي جديد.

فأول نوفمبر كان إعلانًا للثورة سنة 1954 وطرد الاحتلال، وهو اليوم هدية للشعب في سنة 2020 لكي يستعيد سيادته ويصحح مسار مؤسسات الدولة التي ضُربت في العمق من خلال الاختراق، ويعيد الجزائر إلى وضعها الطبيعي.

نورالدين خبابه
01 أكتوبر 2020

Libellés :

إرسال تعليق

[facebook]

أرسل رسالة نصية

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget