أحببت الجزائر طوعًا بالفرنسية !

حب الجزائر

ما أنا هنا براهب، ولا أنا بطالب ودّ لفرنسا، ولا أنا طالب شهرة، ولا أنا هنا أبحث عن مجد ضاع مني، ولا عن مكانة بين الكتّاب...بل لأعبر عمّا أشعر به ولربّما أعبّر بلسان الموجوعين مثلي. إنّه حبّ بلادي يا سادة، الذي يلين الحديد ، والألم الذي يعتصر القلب،  وأنا أرى خيرات بلادي  تُنهب، وطاقاته تبدّد، وكفاءاته تهمّش، ولسان حال الكثيرين من الشباب: أكلوها.

قبل أن أقدم الى فرنسا، تربيت على كره الاستعمار الفرنسي الغادر ككل الجزائريين، وعلى حبّ المجاهدين الشرفاء، والشهداء...  وقبل أن يكن ببيتنا تلفاز، تربّيت على القصص  والروايات،  التي كانت تحكيها أمي   رحمها الله  لي مع إخوتي ،عندما كنا نتغطى بغطاء واحد، ونأكل في إناء واحد...وكنا نعيش بطريقة تقليدية ككلّ أبناء القرية والمنطقة الشرقية ، قبل أن يفترق الجمع.

كنت بفطرتي أتمنى أن أصبح ضابطا في الجيش، وأسير على درب المجاهدين والشهداء،  سيما وأن عائلتي الكبيرة فقدت أكثر من 12 شهيدا، ناهيك عن الخسائر المادية والمعنوية...

درست في الكتاتيب ككلّ أبناء القرية، والتحقت بالتعليم الابتدائي، وفي أول سنة من التعليم بمدرسة التهذيب، كنت أحفظ سبعة أحزاب من القرآن الكريم ،وكان معلمي أحد المناضلين الأوائل بالحركة الوطنية التي كان يقودها مصالي الحاج.
ضحكت حدّ القهقهة عندما رأيت أن هناك من لا يعرف الكتابة والقراءة ...

لم أكن أعرف يومها الصراعات،  وحرب الزعامات، والاستراتيجيات والتحولات، سواء في داخل الجزائر، أو على مستوى الشرق الأوسط، أو على المستوى الاقليمي ، أو على المستوى الدّولي...كلّ ما كنت أعرفه هو ما ينقله لنا أبي، الذي كان يستمع الى المذياع بالبطارية.

لما دخلت الى الجيش لتأدية الخدمة العسكرية ...دخلت وأنا أطير فرحًا ...لكني خرجت منكسر القلب ... وأصبحت عندما أرى القبعة أقول في نفسي :الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلاكم به.

عندما أطلّت الفتنة الكبرى وحدثت المحرقة، كنت أرى بعيني الحيف والظلم والتمييز ...رأيت كيف استهدفت الأسرة عن طريق الاعلام الماكر، سواء المكتوب أو المسموع أو المرئي... ففي الوقت الذي كانت تباد فيه عائلات عن آخرها، كانت التلفزة الرسمية تنقل مسلسلات مكسيكية مدبلجة...وحفلات ماجنة...لم أهاجر إلى فرنسا مختارًا بل أجبرت على الرّحيل.

عندما وصلت فرنسا تعرضت لعدّة ابتلاءات، ماكنت لأعرفها لو بقيت طول حياتي بالجزائر. تلك الابتلاءات الشديدة ، كانت أحيانا تكاد تقضي على حياتي ، وأحيانا أخرى كانت بمثابة مدرسة لمحو الأمّية. لم أعد أدرس بالسّوط،  ولا بالتلقين، بل أصبحت أناقش كبار الباحثين والكتاب وأحلّل وأختار وأقرّر...لم أعد أطالع تلك الكتب المعلّبة بالدين، كتلك التي كانت تميت العقل  وتحشو رأس الانسان بالأغاليط  وكأن أصحابها يعيشون في زمان آخر ... ولم أعد أسمع تلك الأشرطة التي كانت تلعب على العواطف لتجييشها ...بل أصبحت أطالع الكتب العلمية التي تجعلك ترى الدين بمنظار علمي .

أعذروني على الاطالة،  ولكن ثقوا أن المقدمة هذه  لابد منها، لمعرفة الاشكالية، وهذه المفارقات التي نعيشها اليوم. لقد فهمت الآن ما قاله أحد الدعاة : ذهبت الى فرنسا فوجدت الإسلام ولم أجد المسلمين وعدت الى مصر فوجدت المسلمين ولم أجد الاسلام.
أصبحت كلما أرى فيلما وثائقيا باللغة الفرنسية يصور جنة بلادي،  تدمع عيناي على الجزائر لدقة تصويره وتركيبه وإخراجه وملامسة قلبي ...كلما رأيت مستشفى أو شارعا  أو عمارة...أو طائرة، أو قطارا، أو كلية أو تنظيما أو نظافة...كلما بكيت لحال الجزائر...

ليس الشوق أو الحنين الذي يبكيني يا سادة...إنما أبكي عندما أرى فرنسيا يبكي على الجزائر، بمجرد أنه ولد فيها ويتمنى أن يعود ويدفن فيها... وأرى جزائريا في المقابل قضى حياته فيها ويبكي على فرنسا ويتمنى أن يدفن فيها...قوم : عيونهم على الجزائر،  وقوم آخرون أجسادهم في الجزائر وعقولهم خارجها.

إنّ اللغة الفرنسية هي من حركت وجداني،  وحركت الطاقة التي كانت مكبوتة بداخلي...ولو أنني لم أصل بعد للمستوى الذي أطمح اليه ...هي التي  دغدغت أفكاري  وهي التي جعلتني أرى العالم من زوايا  وبألوان  قزحية...ليس لأن الفرنسية متطورة عن اللغة العربية، بل لأن الفرنسيين  طوّروا لغتهم التي كانت عبارة عن شتات، ووحدوها وأصبحوا ينتجون الأفكار  ويبنون بها...فيم لغتنا بقيت لغة غراميات ونحيب كما قال هواري بومدين ذات يوم وهو يخطب في الناس ويعدهم بأن تصبح اللغة لغة تعاملات في مصانع الغاز والبتروكميائيات.

لقد أشربنا حبّ الجزائر قسرا كما الفضائل ... والحب يا سادة لا يأتي  بالقوة إنما يأتي طوعًا عن إرادة واختيار...
كلما درست كتابا باللغة الفرنسية،  أو شاهدت فيلما يروي حضارة ... أو تابعت مناظرة بين سياسيين فرنسيين يتنافسون على خدمة بلادهم ،سواء من اليمين أو اليسار أو من أقصاهم ... أو طالعت اكتشافا...أحببت الجزائر بالفرنسية عن اختيار.
فيالها من لغة جعلتني أزداد شوقا لبلادي، وجعلتني أطور أفكاري وأنظمها...وصدق من قال: إنها غنيمة حرب.

نورالدين خبابه 21 ماي 2017

إرسال تعليق

[facebook]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget