عبارات تستفز العقول، ومفارقة يلاحظها الناس بالعين المجردة وليست من قبيل الخيال أو التصور، وأقوال تترجم في المستقبل إذا لم تفهم في حينها.
كنت قبل سنوات، وفي إحدى الحوارات التي كنت أنشطها كل أسبوع على إذاعة وطني الرقمية، قلت: أنّ الطبيب في الجزائر أصبح محتاجا الى طبيب، و الدواء أصبح محتاجا الى دواء، والمعلم أصبح محتاجا الى معلم، والامام أصبح محتاجا الى إمام، والمقتصد أصبح محتاجا الى مقتصد، والمربي أصبح محتاجا الى مربي... ولم أكن أبالغ وقتذاك، ولا أتجنى على الحقيقة كما قد يفهم السذج، بل وصفت المشهد القاتم بما يحمله...
كنت أسأل أحد المهاجرين المتقاعدين عند عودته من الجزائر: كيف هي الأوضاع؟ فيقول لي وهو يتألم ويتأوه: كل شيء يوجد في البلد الاّ شيء واحد، فأقول له: وما هو؟ فيقول لي : الشعب !
أدخل في نقاش معه بغية فهم ما يدور في خاطره ، فيقول لي: عندما تذهب الى المسجد فأنت لا تجد مكانا للصلاة من كثرة المصلّين، وعندما تذهب إلى جنازة فأنت لا تجد مكانا تقف فيه من كثرة المشيعين... فتقول في نفسك ربما: هذا شعب عظيم ، هذا شعب رحيم، هذا شعب كريم ...
وعندما ترى الجشع، وترى النميمة، والحسد حتى للميت، وترى قطع الرّحم ، وترى الرّبا، وترى الخطف والنهب، وشهادة الزور...وهذا يأكل مال اليتيم وذاك يقتل أخاه ... فلا تقل لي بأن النظام هو السبب يا ابن عمي أرجوك. النظام يبني ويشيد ولكن الشعب يهدم. المواطن هو من يحتقر أخاه، فاذا افترضنا أنّ المسؤول فاسد فإن المواطن يستحقه لأنه مرآة عاكسة له.
كنت قبل أيام كتبت عمّا جرى في إحدى الولايات بالغرب الجزائري، عن مواطن يُسوّق لِشَرْب "حليب" تيس أسود لمعالجة العقم، وآخر لدجاج أسود لمعالجة السرطان...ودققت الجرس عن الحال الذي وصلنا اليه، و حول ما سيجري في المستقبل إذا ما بقي الاعلام يعمل على الاثارة، ولا يهمه ماذا سيترتب من تداعيات خطيرة حول المواضيع التي يتناولها، دون دراسة وأخذ بعين الحسبان لدرجة استيعاب المواطن...
وها نحن اليوم نستيقظ مرّة أخرى لواقع مرير، بعدما ضُرب الأطباء بالعصي ، وسالت دماؤهم وتفرقت، لا لبئر بترول شربوه، أو بنك سرقوه، أو أراضي وعقارات التهموها، أو لأملاك أتلفوها، أو مؤسسات حطموها، ولم يخرجوا لتقبيل يد رئيس أجنبي... بل لأنهم خرجوا يطالبون بحقوقهم التي يعتقدون أنها مشروعة...
كان الأجدر بحكومة وسلطة الأمر الواقع، أن تحاورهم وتقنعهم... وتجد لهم مخرجا...كما وجدت مخرجا لربراب، وحداد ... ونزار وفريقه ...وكان على اعلام العار والإستحمار، بدل أن يوبخهم، ويرفع شماعة الأيادي الأجنبية للتغطية على الفساد، والصفقات التي تمر هناك وهناك، من خلال بيع المؤسسات الوطنية، وافتعال قضايا للإلهاء، أن يساندهم .
أما الشرطة التي خرجت واستقبلتهم بالكلام القذر، وضربتهم بالعصي ...وهي التي خرجت في وقت مضى تطالب بمطالب، وتوجهوا حينها الى مقر الرئاسة بدل وزارتهم الوصية. كان عليهم أن يسألوا أنفسهم: من كان يداوي الشرطي والعسكري والمدني ... عندما يصاب؟
قرأت تعليقات لمواطنين وهم يشتكون من الأطباء على مواقع التواصل، بل منهم من يسخر، ويحالون الصاق التسيير الرديئ لإدارة المستشفيات، لهم ، وكذا طول المواعيد، وعدم نظافة المستشفيات، ونقص الامكانات، وكذا المحسوبية ... مع أن الأطباء خرجوا للمطالبة ببعض ما يعاني منه المريض.
لقد أخرجتهم ظروفهم المهنية، والاجتماعية، وأخرجتهم الحالة البائسة التي وصل اليها مستشفى مصطفى باشا، الذي هو رمز لباقي المستشفيات، في ظل تزايد عدد المرضى والمصابين بأمراض مزمنة ومختلفة... وفي ظل غياب النظافة وتفاقم الاهمال، ونقص الامكانيات ... وأخرجتهم ازدواجية المعايير.
للأسف: في القديم كان عندما يصاب مريض يطلبون له طبيبا، فمن يعالج الطبيب عندما يمرض ويصاب بجرح عميق؟
أعتقد أن الجرح سيندمل ولو دون طبيب ،ولكن كرامة الانسان عندما تجرح صعب مداواتها... خاصة عندما يهينك أبناء بلدك .
بعد الذي جرى للأطباء اليوم من إهانة، لا تسألوا من هنا فصاعدا لماذا تهجر العقول الى أوربا وأمريكا...
نورالدين خبابه 03 جانفي 2017
إرسال تعليق