خاطرة: هجرتك !

خاطرة موجهة للأبناء من الوالدين


عنوان لخاطرة تولّدت تحت الصدمة، وليست أغنية لأم كلثوم.
هجرتك: نتيجة ربما لموقف اتخذته أنت مني أو اتخذته أنا منك ...يستحق منك حسن التأمل والتدبر...قبل أن تفكر آلاف المرات  في الهجر.لا تسأل عن مصدر الكلمات التي ستقرأها، فقائلها ربما قد مات وها هو الآن يلقنك درسا من مدرسة الحياة ! أنت  تعرفه ولا تحتاج الى مرشد يدلك عنه أو ساحر يفك طلسمة المفردات.

اسأل عن مغزى الكلمات المنحوتة داخل لحمك ودمك... ان كانت فيك بعض ذرات الفحولة و البشر ...وحاول أن تستذكر معي بعد الانتهاء من القراءة  تمتماته  أو تمتماتها في أذنك...لترى الدنيا بألوان قزحية.استفد إن شئت من الرسائل قبل أن يملأ الدود بطنك والتراب فمك،  وتصبح   خبرا بعد عين... اخبر بها من تحب أو لا تحب،  فكلكم آت موعده.

لا تسأل عن الأسباب التي تعصر الكلمات، ولا عن الأجواء التي تنحت فيها...  فالغربة وحدها قادرة على اشعال البراكين في القطب المتجمد، وتفجير أنهار في الصحاري  القاحلات...وإذابة جبال من الجليد في سيبيريا ...والعيش في الواقع قبل أن يقع ! اسأل من اكتوى بنار الغربة، كيف أصبح  يُشعر ويكتب ويغني ويُلحّن ويرسم... وكيف تفجرت مواهبه وحلت عقدة لسانه.

أنا الآن أحاول أن أتقمص شخصيتك وشخصيته فأعرني سمعك.أنا الذي كان يطير فرحا ويشتاق للقياك، ويطرب لسماع صوتك، وتدمع عيناه لمصابك. كنت تحبو ولم أكن أقلق على حبوك بل كنت أرشدك كيف تتعلم الخطوات.كنت أشربك الحنان فيما كنت أنا أشتاق اليه...لا تصدق قاعدة (فاقد الشيء لا يعطيه)...فهناك قاعدة أخرى...(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). أنا الذي كان يسأل عنك عندما تمرض، وعندما تغيب، أزورك بلا حساب ودون موعد، وأطمئن عليك في السراء والضراء... وقادر أن أعطيك أطراف جسدي حتى تتمتع  أنت بالحياة. أنا الذي وضع مستقبله خلفه وكان يفكر آناء الليل في بناء مستقبلك...أنا الذي كان يخفي ألمه وأوجاعه حتى لا تشعر لحظة بالإحباط...فسعادتك هي أبلغ ماكنت أتمناه. أنا الذي كان لا يشعر، لا بأكل  ولا شرب دون أن تحضر أنت المائدة ...فأنت فاكهتها وملحها.أنت الذي كنت تتغذى من معاناتي...

أنا الذي كان يدفع  لك من صحته وشبابه...فترى أنت وبصري يتضاءل، وتكبر أنت وسني يتراجع...وكنت كالشمعة أضيئ لك الطريق فيما كنت أنا أحترق. أنا الذي كان يعيش في السجن من أجل أن تعيش أنت حرا طليقا.أنا الذي أخاطبك بها،  ليست هي الأنا كما قد يتبادر الى ذهنك ياصاحب الرأس المقفل،  فالأنا هي من لازالت تتحكم فيك، وهي التي جعلت منك عبدا يعبد هواه...   وستعرف قيمة ما أخاطبك به عندما تعرف من أنا ومن أنت. أنا الذي كنت أسهر على حمياتك، وأجابه الأخطار من أجلك كل يوم...الى درجة أن أمرض وتصحّ.أنا الذي كنت أقتصد حتى  أوفر لك الرخاء، وكنت أسترق الوقت  حتى لا يضيع وقتك.وكنت أسهر الليالي  الطوال حتى تنام في طمأنينة...لم أكن أعرف فصول السنة بل كنت أنت السنة والفصول.

أنا الذي كنت أخفي تعاستي و فقري، ويتمي ...وأخفي مرضي، وأخفي لوعاتي ولهفاتي وغضبي وشوقي. ..حتى يشتد عظمك. هجرتني الآن بعدما اشتد عظمك ! تذكرت الآن أنك كنت الحياة ولو...أراد الموت أن يخطفك لفديتك بنفسي...فيم أنت الآن تتمنى أن أموت لتبقى.أنا الذي علمتك كيف تنطق وكيف تعبر وكيف تستعمل المنطق والحساب...أنا الذي علمتك كيف تقف وكيف تمشي...وكيف تأكل وكيف تلعب...هجرتني الان بعد ما اشتد عظمك ! تركتني وأنا على الفراش بعدما كنت أنتظر منك أن تساعدني وتجبر كسري  وتناولني كوب ماء  أروي به عطشي ...أو تناولني الدواء لأخفف من معاناتي ! أنا الذي كنت أنت عندما كان هو أنا.أنا الآن أذوق  ماسوف تذوق منه أنت  وسيذوق  غيرك من نفس الطعم ...لامحالة.

ذهب شبابي الذي كنت أعتقد أنه لا يفنى، وصحتي التي كنت أعتقد أنها لا تبلى...وبدأت أنسى، وبدأت  أتلعثم وبدأت أتأتئ، وأتعلم   الأحرف الأبجدية  ...وبدأت أعرف أنني لم أكن أعلم شيئا... سقط القناع  وزال الستار... وها أنذا أرى ما كانت تغطيه عني الحجب...ليت الوقت يعود الى الوراء لأعرف من أنا، أقبل الأرجل وأقبل الرأس، وأزحف على بطني وأحبو ... وأعيش الجنة التي كنت أعتقد أنها الجحيم...لكن هيهات هيهات...فالوقت قد فات.

نورالدين خبابه 24 جويلية 2018

إرسال تعليق

[facebook]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget