لست هنا يا أخي بصدد اعطاء درس في التربية الاسلامية أو حتى المدنية، أو لأقدّم لك موعظة، أو ألقي عليك خطبة جمعة فوق المنابر التي تنوح... و تشتكي من غياب نبرة الصدق، وتئن من كثرة النفاق... وتبكي على فراق زمن الفطرة.
أحرك بالكلمات الرؤوس الصدئة، والقلوب التي اسودّت وتفحّمت وأصبحت أشد قسوة من الحجارة... لست بمعلم أعطيك الدروس ولست بإمام جاء ليفتيك، ولا طبيبا جاء ليفحصك، أو مفتشا جاء ليرسّمك ... بل طالب من طلبة مدرسة الحياة...يبعث لك رسالة عتاب عبر هذا الأثير ويذكرك بما قصرت.
علمتني الابتلاءات المختلفة ... أن أعيش الواقع كما هو، دون تكلف ، وأستشرف المستقبل من خلال حلقات الماضي المترابطة، و سينما الحاضر. أحاول أن أعبر بلكنة فصيحة، وأسلوب مستفز أحيانا، ينقر الأسماع نقرًا ويهزّ العواطفَ بالعواصفِ، وبلغة رعدية وبرقٍ لامعٍ يخطف الأبصار، و صواريخ ومتفجرات وكاسحات ألغام ...توقظ النيام.
لا تلمني يا أخي، فيوم أن هاجرت مكرها، كنت مقتنعا أن الموت ليس بالضرورة أن يكون في مجزرة، أو في حاجز مزيف، أو تحت التعذيب ... وإنما الموت يكون بالنسيان، والتجاهل، والاحتقار والتهميش...وما أصعب الموت حين يكون موت القلوب !
رأيت وقتها بداية الجشع، وكيف وصل الناس الى اقتسام تركة الميت قبل أن يدخل قبره...أو يجف ترابه...ورأيت ما حدث من بعدي من تفكك في الأسرة، هذا الذي تراه اليوم رأي العين وفق ما صورته لك وأنت تسخر وتهزأ.
تذكرت أقوال من سبقونا، كيف لم يتركوا لنا بابا الا وطرقوه، ولا شاردة الا وأشاروا اليها...ولا طريقا الاّ ورسموه. لن ألومك يا أخي على تفريطك بخصوص صلة الارحام، فربما لك ما يشغلك. أتفهم ذلك... لن أضيع أوقاتك في التساؤلات فلعلك مع الأصدقاء والخلان والجيران الجدد، ومع المشاريع والصفقات...والضمانات...وأهل الحضارة...وصلة الرحم التي لا تجلب لك المشاريع والصفقات، أعرف أنها مأساة ويالها من مأساة عند أمثالك.أعرف أنك لو أعطيت حرية الاختيار، لتنكرت حتى لأبويك...فأنت من النوع الذي يتنكر ربما حتى لآدميته مقابل الدينار.
لن ألومك يا أخي، إن فرطت في زيارة مريض فقير، أو تعزية قريب... فلربما وسائل التواصل غير متاحة لك، خاصة وأنت الذي يسكن المدينة وليس مع البدو المتخلفين كما يردد، وأي مدينة هاته التي لم تعلمك المدنية؟ حيث لا فاسبوك عندك ولا فايبر ولا سكايب ولاغيرها من برامج المحادثة المجانية .لن ألومك، فلربما لا تمتلك هاتفا ولاتلفازا ولا سيارة... وأنت الذي يتظاهر بأنه رجل الأعمال.
لن أفوت عنك فرصة متابعة مقابلة في كرة القدم، أو الاستمتاع بالفكاهات... والمشويات والمرطبات... والمعارضة بالفستق والشاي المنعنع على المواقع... ..فأنت البعيد عن الواقع. لن أعكر صفو لقاءاتك الحميمية...وسأتركك تلعب وتلهو وتمرح وتسرح...حتى تصاب بالتخمة.
لقد تثاقلت الى درجة الخمول والجمود، وفرطت في صلة الرحم ، و لم يبق لك من الوقت الكثير...فموعدك اقترب.لاتلمني يا أخي، إن قسوت عليك بخشونة الألفاظ والتعابير، فعندما فقدت أعز ما أملك، لم تعدني، بل لم تسأل عني ولم تعزيني... وكأنك كنت تتلذذ بمعاناتي وأنا أبكي وأتألم...؟ كنت كالذئب تراني دون أن أراك !
لا تلمني فلقد تعرض جسدي كذا مرة للطعنات والوخزات... وخاطته الابر وشرّحته المقصات...عندما كنت أنت تجري وتلهو وتستمتع. لا تلمني يا أخي فقساوة الغربة أفقدتني تلك البسمات التي كانت تنبعث قبل أن تظهر المأساة ، وحرمتني طعم الأفراح وحرارة الأسرة، وإحياء ليالي العيد إن كنت تذكر...لا تلمني يا أخي، ففقدان الأبوين جعلني لا أعرف لك موقعا...فأنت لاتساوي لي شيئا ...كيف لا وأنت الذي كان يزعم صلة الرحم، وكان يعطي الدروس.
عندما هاجرت ...حشرت نفسي في زاوية وأغلقت عليها في غرفة مظلمة حتى أتأسى بظلمة القبر، وبدأت أعيد الحسابات... فاكتشفت كم كنت ساذجا عندما كنت أوليك أكثر من حجمك...كيف لا وأنت قاطع الأرحام.
لم أعد أثق فيمن فرط في دماء الابرياء، وسكت عن أعراض الضحايا وهي تنتهك، وكان يعيش لنفسه طيلة المحرقة ...باع شرفه....وعندما وصله الأجل يحاول الاستمالة والاستعطاف على المواقع....وياليته كان صادقا .
لا تلمني يا أخي إن قسوت عليك ، فبكاء اليتامى يطاردني ، وعويل الارامل يفقدني الراحة...وزفير المساجين يعكر أجوائي...
أتريدني أن أتمرّغ كما تتمرّغ الأنعام...؟ لقد ركلت الدنيا بأكملها عندما كنت أنت تجري وراء سرابها ...وماجئت للبساتين والشقراوات والمراكب...بل كنت ولا أزال أركلها ليعيش غيري ...عش أنت وامتلك ما شئت من القصور، وتحلى بما شئت من العطور..
تذكرني عندما يتدحرج بك السرير وأنت تساق الى يوم الحساب، حاول أن تأخذ معك الشقق الفارهات والأواني الفضية... خذ معك سلاسل الذهب والألماس والحسابات البنكية...خذ معك الأراضي الشاسعات...وخذ معك ماشئت...من المأكولات والأغطية...عذرا يا أخي، الفرصة الأخيرة أمامك لتصل رحمك وأن تطلب العفو ممن ظلمتهم قبل أن تجرجر بالسلاسل .
أما آن لصلة الرحم أن تعود...؟ قاطع الله من قطعها. نورالدين خبابه 18 أوت 2018
إرسال تعليق