يتناول هذا المقال الحراك الشعبي في الجزائر من زاوية عقلية العناد السياسي، التي يلخّصها المثل الشعبي "عنزة ولو طارت". ينتقد الكاتب تمسّك السلطة والمعارضة المزيّفة بمواقف مسبقة، ورفضهما الاستفادة من فرصة تاريخية للتغيير، محذرًا من إعادة إنتاج المأساة تحت غطاء الانتخابات والشعارات.
الحراك في الجزائر وسياسة عنزة ولو طارت!
دعوني في البداية أبدأ حديثي بهذه النكتة الجزائرية لمن لا يعرفها...
في منطقة من مناطق البلاد الثرية بتنوعها الفكري والثقافي والجغرافي والتاريخي... يُحكى أن رجلًا رأى سوادًا من بعيد يتحرّك، فقال لصاحبه وهو يراهنه: إنها عنزة. قال صاحبه: إنه غراب. وظلّا يتناقشان في الموضوع، وكلٌّ منهما يُصرّ على رأيه، إلى غاية أن طار الغراب. فقال الرجل لصاحبه: ألم أقل لك إنه غراب؟ ومع الحقيقة التي أصبح يراها بالعين المجردة، تمسّك الرجل برأيه لخشونة رأسه، وقال له: إنها عنزة. فقال صاحبه: يا صاحبي، العنزة لا تطير، ما بك؟ فقال له: إنها عنزة ولو طار السواد!
هذا المنطق هو السائد للأسف في الجزائر منذ زمن طويل. فرغم المأساة الجزائرية التي حصدت أرواح أكثر من 200 ألف قتيل، ناهيك عن المختطفين واللاجئين وتداعيات المأساة التي لم نتخلّص منها بعد، بسبب الزعامات والمشيخة والفتاوى والصراع على الحكم... ها هي مؤشرات مأساة أخرى تلوح في الأفق بعناوين أخرى.
تسعة أشهر من الحراك الذي جاء نتيجةً لتراكمات مختلفة كما أسلفت سابقًا، واستمرارًا لتضحيات متعاقبة، لا يزال العناد والتصلّب هو من يصنع قناعات وقرارات كثير من الناس؛ سواء لدى من بيدهم السلطة والموالين لهم، بالذهاب إلى انتخابات مغلقة حتى ولو أن الشعب كاره لها ومقاطع لها، بل ومنهم من كان ينتقد مقولة توفيق لقتل 3 ملايين جزائري يعمل لها اليوم. أو لدى من يزعمون المعارضة وهم يخدمون الدولة العميقة وجهات دولية تعمل ليل نهار لإدخال الجزائر في حمّام من الدم، للسيطرة على منابع النفط في الصحراء وتقسيم الجزائر إلى دويلات واحتلال موقعها الاستراتيجي لعقود.
كنا نقول لهم منذ بداية الحراك – والتسجيلات موثّقة ومنشورة – لا بدّ من تأطير لهذا الحراك إذا أردنا خيرًا للبلاد وللشعب، واستغلال هذه الفرصة التاريخية سلطةً ومعارضةً وجيشًا وشعبًا لإحداث تغيير حقيقي ونهضة منشودة، عن طريق استخدام الضغط والتوتر الإيجابي في الاتجاه الصحيح؛ وذلك بعقد مؤتمر في الداخل والخارج، بمشاركة المساهمين في الحراك على مستوى الولايات، واختيار شخصيات نزيهة وكفاءات وطنية لم تتورّط في الفساد، ولم تشارك النظام في الحكم – على الأقل منذ انقلاب 1992 – وفتح حوار مجتمعي يفضي إلى التوصّل إلى خطوط عريضة لمشروع مجتمع جديد يسع الجميع...
ومع ذلك، كان بعض من يتحدثون اليوم عن تأطير الحراك يرفضون التأطير بحجج مضحكة وهزلية، وهدفهم كان – ولا يزال – أن تخلو لهم الساحة، لاسيما وأنّ منهم من يسكن في وسائل الإعلام ويتّخذها مشروعًا له، ويعمل على منع أي رأي آخر من الظهور، حتى يتسنّى له احتكار الساحة ليؤطّر الحراك فيما بعد وفق أجنداته للوصول إلى السلطة بالتي هي أحسن أو بالتي هي أخبث.
لقد راهن البعض على أشخاص لم يكن لهم أي إسهام في معارضة النظام، وحاولوا تضليل الرأي العام بمنشورات مجهولة المصدر، وروّجوا لكلام يجهلون حتى مصدر مصطلحاته، يتقاسمه معهم – حسب زعمهم – قيادة الجيش. ولن تسمح قيادة الجيش "الباديسية النوفمبرية"، بعد أن كشفت المؤامرة، لأي شخص كان ينتمي إلى النظام السابق بتولي أي مسؤولية. وأنها ستعيد للجزائر مجدها وسؤددها، وستقضي على تاريخ ماسينيسا "الخائن والعميل" حسبهم. فجاء تمثال ماسينيسا عشية أول نوفمبر، بعدما فشل بعضهم في جمع التوقيعات، كالصاعقة، ناهيك عن أشياء أخرى ليس المجال لحصرها، يكفي الإشارة للبيب ليفهم.
وها هي الأيام تثبت أن دار لقمان لا تزال على حالها. فرغم الجحافل البشرية التي غطّت شوارع أغلب الولايات، ورغم الرسائل القوية التي خرج بها حراك ولاية برج بوعريريج – الذي عملوا على تكسيره حقدًا وحسدًا حتى يتحكّموا في المبادرة بعدما تمّ سحبها من تحت أرجلهم – ها هي القائمة الرسمية تُفرِز خمسة مرشحين، كلّهم كانوا من نفس النظام الذي أشرف عليه عبد العزيز بوتفليقة منذ قدومه سنة 1999. ومع ذلك لم يستحوا، بل منهم من خرج يدعو للتصويت بورقة بيضاء لرفع نسبة المشاركة، ويتوعّد المقاطعين والمشككين والعاملين على إفشال موعد النظام بسوء الخاتمة.
إن الشعار الذي حمله قايد صالح في خطاباته بخصوص أنّ سياسة تعيين الرؤساء قد انتهت، ما هو إلا كلام للاستهلاك. فقد صرّح الشاذلي أيّامًا قبل الانقلاب بأنه سيحترم الإرادة الشعبية مهما كان المنتصر، وحدث ما حدث. وصرّح زروال قبله نفس التصريح، واختار جهاز الدولة العميقة بوتفليقة سنة 1999، واستمر 20 سنة في الحكم إلى غاية بداية الحراك. وصرّح محمد العماري في 2004 التصريح نفسه، واختار بن فليس قبل أن ينقلب عليه الجنرالات، وينحازوا إلى بوتفليقة الذي كان يخطِّط لما هو قادم. وها هي الأسماء المعلنة تكذّب ما يقول قايد صالح. فلو كان جادًّا في التغيير لما تمّ تعيين كريم يونس وشرفي على رأس لجنة الوساطة والانتخابات، ولما ظهرت هذه الأسماء القديمة.
إن أي تغيير في الجزائر – مهما كان أصحابه – لا يذهب إلى جذور الأزمة الجزائرية الضاربة في أعماق التاريخ، والتي ابتدأت قبل الثورة ولا تزال تلقي بظلالها إلى اليوم، ولا يعالجها من جذورها من خلال مشروع توافقي، لن يحلّ الأزمة بقدر ما سيزيد من تعقيداتها، بل سيكون كالشرارة على فوهة بركان، ما إن يشتعل سيحرق الأرض حرقًا.
قلنا مرارًا وتكرارًا: إنّ الوقت لم يَعُد يسمح بالترقيع وسياسة الهروب إلى الأمام؛ فإمّا أن تنجو السفينة، وإمّا أن يغرق الجميع: سلطةً ومعارضةً وشعبًا.
نورالدين خبابه
15 نوفمبر 2019
إرسال تعليق