يعود هذا المقال إلى سجال متجدّد حول «الشرعية» في تاريخ الثورة الجزائرية، وكيف يُستَخدم اسم يوسف بن خدة والحكومة المؤقتة للطعن في هواري بومدين وقيادة الأركان. يحاول الكاتب تفكيك أنواع الشرعية (الثورية، الشعبية، الدستورية والتاريخية)، والردّ على روايات يَراها انتهازية تُشوّه مسار التحرير لخدمة صراعات على السلطة إلى اليوم.
إلى المتخفّين وراء رئيس الحكومة المؤقتة يوسف بن خدة، الطاعنين في هواري بومدين:
قبل أن أبدأ حديثي، بودّي أن أوضّح مسألة في غاية الأهمية، وهي:
يجب التفريق بين قيادة الأركان لجيش التحرير الوطني الممثَّلة في هواري بومدين، والذي لم يُعَيَّن من قبل رئيس منتخب، ولو نسبيًا، في دولة مؤسسات تنعم بالإدارة والاتصالات والنقل والإعلام... كما هو الحال اليوم.
بل كانت تواجه الاحتلال بوسائل محدودة، من قاعدة خلفية على الحدود التونسية، تشرف على التنظيم والتدريب والتسليح والتخطيط... فرضتها طبيعة الحرب، بدليل وجود خطي شال وموريس اللذين أُنشِئا بغرض منع دخول السلاح، ومنع تدفّق المجاهدين إلى الأراضي الجزائرية... يكفي أن هناك آلافًا من الشهداء سقطوا بسبب هذا الخط اللعين.
كما أن هواري بومدين تم تعيينه من قيادات في الثورة، وعلى رأسهم عبد الحفيظ بوصوف وبن طوبال، اللذان هما من مجموعة 21+1 أو مجموعة 22، بعدما عجز كريم بلقاسم ومن بعده محمدي السعيد في تنظيم المجاهدين، والخلافات التي كانت بينهم... ويكفي الرجوع إلى اجتماع العقداء الذي ظل لأكثر من 90 يومًا.
وبين قيادة الأركان التي يوجد مقرّها في العاصمة الجزائرية حاليًا، والمتَّهمة من قبل شرائح من الشعب، بعد اغتيال هواري بومدين سنة 1978، بأنها صانعة الرؤساء وتمنع الشعب أن يستعيد سلطته، لاسيما بعد الانقلاب المشؤوم سنة 1992 على الرئيس الشاذلي بن جديد، ودخول الجزائر في أتون حرب قذرة لا نزال لم نتخلّص من تداعياتها إلى اليوم.
يربط بعض الناس حكم هواري بومدين بحكم قايد صالح وخالد نزار، ولا يفرّقون بين قيادات الجيش، مع أن الفرق واضح وضوح الشمس كما أسلفت.
إذا تحدثنا عن الشرعية، فيجب أولًا أن نحدّد: أيّ شرعية نقصد؟ هل هي الشرعية الشعبية؟ أم الدستورية؟ أم التاريخية؟ أم الثورية؟ أم الدينية؟ ولنفترض أنها الثورية، بحكم طبيعة الثورة، وبحكم أن الحديث عن يوسف بن خدة...
الحكومة المؤقتة غير شرعية، بدليل أنها لم تُنتخَب في المجلس الوطني للثورة الذي جاء بعد انعقاد مؤتمر الصومام، ويكفي ما حدث لعبان رمضان الذي أُعدم بالمغرب سنة 1957، وانعقاد مؤتمر بالقاهرة لمراجعة مقررات الصومام.
ولم تنبع من إرادة شعبية، بدليل أنها لم تنشأ عن طريق الانتخابات، كما أن الدولة الجزائرية لم تُؤسَّس بعد.
فرحات عباس وبن خدة لم يكونا لا في مجموعة 21+1 ولا في مجموعة 5+1 اللتين فجّرتا الثورة. فمن أين جاءتهما الشرعية الثورية، بربكم؟
والذين يتّهمون هواري بومدين، قائد جيش التحرير الذي كان يخوض المعارك، بأنه لم يطلق رصاصة واحدة وكان يقيم في تونس... ما هي العمليات التي قام بها بن خدة وفرحات عباس ومن معهم؟ وأين كانوا يقيمون طيلة الثورة؟ وأين كان يقيم كريم بلقاسم...؟
وكيف قُبض على العربي بن مهيدي بالعاصمة، وأُعدم تحت التعذيب، في الوقت الذي أصبح غيره يتطلّع إلى المناصب وإلى «الشرعية»؟
بالإضافة إلى ذلك: المفاوضات مع فرنسا التي كان يقودها فرحات عباس في البداية؛ ألم يُصرّح فرحات عباس – والتصريح موجود ومنشور – بأن عبان رمضان اتصل به شهر ماي سنة 55، أي بعد أشهر فقط من اندلاع الثورة، بغرض وقف الثورة؟
لماذا قام مجموعة من الشباب بتفجير الثورة؟ لماذا لم يبقوا يناضلون سياسيًا في حزب مصالي الحاج؟
اتفاقيات إيفيان التي وقّع عليها كريم بلقاسم في حكومة يوسف بن خدة رهنت الجو، بدليل أن هناك مطارات لفرنسا، ومنها مطار بشار... والبحر، بدليل بقاء قاعدة المرسى الكبير تحت النفوذ الفرنسي إلى غاية أن جاء هواري بومدين وحرّرها. وسمحت للتجارب النووية، بدليل ما حدث في الصحراء الجزائرية... كما أن الاستفتاء كان مشروطًا بالتعاون مع فرنسا...
إنّ يوسف بن خدة انسحب غاضبًا من مؤتمر طرابلس سنة 1962، لأنه تفاوض مع الفرنسيين ومعه كريم بلقاسم، وحضّروا مجلسًا كان يقوده عبد الرحمان فارس بمشاركة فرنسيين في الحكم، وكان مقدّمة لتسليم السلطة إلى جهة مقبولة فرنسيًا وأمريكيًا، فيما كان هواري بومدين ومعه أحمد بن بلة مرفوضين – والوثائق بحوزتنا كدليل – قبل أن ينقلب عليهم هواري بومدين مع أحمد بن بلة ويخلطا حساباتهم.
لقد قرّر يوسف بن خدة، ومعه كريم بلقاسم، إبعاد هواري بومدين من قيادة الأركان عشية الاستقلال، وفقًا لنفس المخطط المتعلق بالحكم، وطلب بن خدة من الجيش التمرّد على القيادة. غير أن الجنود وقادة الولايات تمرّدوا على الحكومة المؤقتة التي لم يكن يوسف بن خدة يتحكّم حتى في عناصرها، بدليل خلافه مع أحمد بن بلة. ولذلك حدث التمرّد فيما بعد في منطقة القبائل، بعد أن فشلوا في الوصول إلى السلطة، وأصبحوا يلقّبون جماعة تلمسان – نسبة إلى الاجتماع – بجماعة وجدة.
المجلس التأسيسي الذي انعقد في الجزائر شارك أغلبهم فيه، وكانوا أعضاء فيه بالانتخابات، وهو الذي أعطى القيادة إلى فرحات عباس، ثم استقال، مثلما انسحب آيت أحمد وكريم وغيرهما...
فعن أيّ شرعية يتحدثون؟
ألم يكن محمد خيضر وفرحات عباس ومحمد شعباني مع أحمد بن بلة؟ ألم يدخل هواري بومدين إلى الجزائر العاصمة بعد شهرين من الاستقلال، فيما كانوا هم يتسابقون إلى العاصمة طمعًا في الاستيلاء عليها؟
ألم يكونوا يتسابقون كلهم إلى الحكم؟ لماذا أسّس بن خدة حزب الأمة في التسعينيات، ولم يحصل حتى على مقعد واحد؟
لماذا أسّس كريم بلقاسم حزبًا مع عميرات سنة 67، في نفس العام الذي هاجمت فيه إسرائيل مصر واحتلت جزءًا من الأراضي العربية، وكانت الجزائر مشاركة هناك في الحرب ضد إسرائيل بأمر من هواري بومدين؟ وهو العام الذي تمت فيه محاولة الانقلاب على هواري بومدين للانتقام منه، ثم محاولة اغتياله بعد أشهر. ألم يشارك عمُّهم لخضر في الانقلاب؟ ولماذا ذهب إلى لبنان يا ترى؟
لماذا أسّس آيت أحمد حزبًا وترشّح للرئاسيات سنة 1999؟ لماذا أسّس محمد بوضياف حزبًا وأصبح رئيسًا بدون انتخابات سنة 1992، وقَبِلَ بحكم الجنرالات؟
أزيد؟
نورالدين خبابه
07 فيفري 2020
إرسال تعليق