شكرا أستاذ كورونا: دروس الجائحة في الجزائر

مقال يخاطب فيه الكاتب «أستاذ كورونا» ساخرًا، مستخلصًا دروس الجائحة في الجزائر بين قرارات السلطة وسلوك المجتمع.

جاء هذا المقال في خضمّ جائحة كورونا (كوفيد-19) وما خلّفته من آثار صحية واجتماعية وروحية عميقة في الجزائر والعالم. بدل الاكتفاء بلغة الأرقام والخسائر، يختار الكاتب أسلوبًا ساخرًا يخاطب فيه «أستاذ كورونا»، ليكشف عبر هذا الخطاب المباشر التناقضات في قرارات السلطات، والفوارق بين إغلاق المساجد وفتح الأسواق، واستغلال الوباء لقمع الحَراك من جهة، وبين الدروس القاسية التي أيقظت ضمائر البعض وفضحت أنانية البعض الآخر من جهة أخرى.

أيّها الفيروس الفتّاك: مهما كان منبتك ومشربك، ومهما كانت غايتك ووسيلتك، ومهما كان حجمُ اختراقك وشرّك، ومهما كانت دائرة نفوذك وسعة انتشارك، ومهما كانت قساوتك وحدّتك، ومهما كانت حيلتك ودهاؤك، ومهما كان مستوى الدمار الذي تقوم به على كل المستويات، حيث حطّمتَ عائلاتٍ، وعطّلتَ اقتصادًا، وأوقفتَ النقل برًّا وجوًّا وبحرًا، وجمّدتَ مشاريع، وأجّلتَ أعراسًا ونشاطات، وامتحانات، وألغيتَ مواعيد وبرامج وزيارات، وقطعتَ التواصل وأغلقتَ الحدود والمدارس وكثيرًا من المؤسسات.

اليوم يشتكيك الناس، ومنهم من يسبّك ويلعنك، ومنهم من يسعى لقتلك ومحوك من الوجود لو قدر على ذلك، ومنهم من يتّهمك بأنك عديم الشخصية، منافق، لئيم وغادر…

بخصوصك تُقام الآن ندوات واجتماعات، وتُخصَّص ميزانيات، وتُعدّ برامج في الفضائيات والإذاعات وعلى كل المستويات، وتُذاع بخصوصك نشرات، وتُجيَّش جيوش من الأطباء والخبراء والمختصين للقضاء عليك. لقد قتلتَ مئات الآلاف في فترة وجيزة، ولا زلتَ إلى حدّ كتابة هذه السطور تفتك بأرواح وتزهقها دون أن تأخذك شفقة ولا رحمة. لم تُفرّق بين عربي وأعجمي، ولا بين مسلم ويهودي ومسيحي وبوذي ومجوسي، ولا بين عسكري ومدني، ولا بين عالم وجاهل، ولا بين فقير وغني، ولا بين جنرال وجندي، ولا بين ابن البلد أو الأجنبي. وتفنّنتَ في القتل وقطع الأنفاس، ومنعتَ الناس من حضور الولائم، بل حتى مواساة بعضهم، وحوّلتَ الأفراح إلى أتراح، وبيوتًا وبلدانًا كانت عامرة إلى أشباح…

ومع كلّ ما فعلتَه بالمجتمعات والدول والأسر… تستحقّ الشكر!
ليس لأنك لئيم ولعين كما يسمّيك البعض، بل لأن فيك ما يفيد الناس! نعم، أستاذ كورونا: حتى لو حاولتَ قتلي وغدري كما فعلتَ بغيري، فأنا أذكر بعض حسناتك، حتى لو كنتَ أنت نفسك تجهلها؛ ليس خوفًا منك، لأنك كلّ يوم تعطينا دروسًا في الصبر والاحتساب، وكلّ يوم نستنبط الحكمة التي تنشرها عبر مواقيتك التي تفرضها، وأجنداتك التي تجسّدها، وحلقات بلائك التي تختارها.

لقد غزوتَ البلدان والمجتمعات، وأبنتَ ضعف الجيوش والمخابر، وكشفتَ زيف التظاهر بالقوّة الخارقة والجيوش الجرّارة، وكسرتَ عنفوان بلدانٍ كانت تدّعي السيطرة، وطأطأتَ رؤوسها ووضعتها في الحضيض. لقد أبنتَ لنا أشياء كثيرة ما كنّا ننتبه إليها لولاك، فأصبحتَ محلَّ ذكرٍ وحديثٍ ومضربًا للأمثال. فضحتَ تناقضات كثيرٍ من الناس، وشرحتَ لنا بالتفصيل المملّ كذبهم ودجلهم وأنانيتهم وجهلهم وجبنهم وغشّهم، بل ووقاحتهم، إلى درجة أنهم اتّخذوك قناعًا لإخفاء حقدهم ومكرهم وحسدهم وغطرستهم وطغيانهم ونفاقهم وجشعهم…

ووصل الحدّ بهم إلى أن يؤرّخوا أحداثًا باسمك ويتطيّروا منك، ويعتبروك نذير شؤم؛ فمنهم من يردّد: هذا عام كورونا، حَراك كورونا، زواج كورونا، حكومة كورونا، ميلاد ابن أو بنت كورونا، عائلة كورونا، حفل كورونا… بل وصل الحدّ إلى تلقيب الزمن بـ«كورونا»… إلخ.

من الناس من يقف في طوابير مختلفة لقضاء حاجته، لاسيما إذا تعلّق الأمر بسحب أموال، أو بالأكل والشرب، بل يقف في طابور من أجل الحصول على كلغ من الزلابية وهو صائم، ويتنقّل ليلًا ونهارًا، لكنه يتخلّف عن القيام بواجب العزاء والمواساة أو القيام بالعبادة، ويتحجّج ويتخفّى بكورونا كما أسلفتُ، فلا نفعته دروسك ولا أخذ العبرة. نعم؛ شكرًا يا أستاذ كورونا، لقد أبنتَ حقارتهم ونذالتهم، فرغم ما حلّ بعائلاتٍ بأكملها لم تتحرّك ضمائرهم، وظلّوا غير عابئين بما يجري، وكأنّ من يموت ذبابٌ أو حشرات!

أجبني بصراحة يا أستاذ كورونا: إذا كنتَ أنت من منع الناس من التنقّل والتواصل، فلماذا أُغلِقت المساجد باسمك، فيما تُفتح الأسواق؟ هل أنت عنصريّ إلى هذا الحدّ؟ أم لك عداء تجاه الدين؟ أم أنت لائكيّ تفصل الصلاة عن المسجد؟ ولماذا تُمنَع التعازي باسمك خوفًا على حياة الناس، فيما تُفتح المحلّات التجارية وأماكن التسوّق؟ ولماذا يُمنَع الحَراك باسمك، فيما تُفتح أسواق المواشي والأغنام؟

شكرًا يا أستاذ كورونا؛ لقد نقص الضجيج في المدن، ودويّ الطائرات والقطارات والبواخر، وعادت السماء إلى زرقتها بعدما احتجبت بسبب غيوم التلوّث، واستراح الناس من روائح السجائر، ونقصت الزحمة في الطرقات، وعادت الحرارة الأسرية في شهر رمضان – على الأقل – حيث صلّى الملايين جماعاتٍ في بيوتهم وأدّوا صلاة العيد، بعدما أنهكتهم الفرقة والتشتّت والبعد، إلى درجة أن اللقاء في البيوت أصبح مستحيلًا بسبب التكنولوجيا التي أبعدت القريب وقرّبت البعيد.

وعن طريقك رأينا من أصبح يعرف ما معنى النظافة والتعقيم، ورأينا التلاحم والتضامن والتواصل والابتكار، وروح المبادرة لدى نفوسٍ وقلوب لا تزال حيّة.

هناك من فهم الدرس فرقّ قلبه بعدما كان كالصخر الجامد، ومنهم من راجع حساباته، ومنهم من وضع «الفرملة» بعدما كان سيره كالبرق الخاطف، وبدأ يلتفت يمينًا وشمالًا حتى يصحّح مساره، وهناك من لا يزال في غيّه وجبروته. صراحةً يا أستاذ كورونا: لم أفهم بعض الناس الذين يفضّلون أن تقتلهم في أوروبا ولا يموتون في إفريقيا؛ هل لديك معايير خاصة في التعامل مع ضحاياك باختلاف بشرة الناس؟ وهل كورونا أوروبا مختلف عن كورونا إفريقيا؟

شكرًا أستاذ كورونا على دروسك، حيث كشفتَ للناس معدن الأحرار والحرائر، معدن العطاء والتضحية، معدن الوفاء. وأبنتَ للعالم حجم البلاء: كيف يمكن أن يحلّ بعائلةٍ في لحظة فيحوّلها إلى شتات، وأشرَبتَ أسرًا بأكملها كأس المصيبة إلى درجة أن هناك من مُنع من حضور جنازة والده أو أمّه أو أخيه… ومنهم من شعر بمرارة الابتلاء وأحسّ بأناسٍ اكتووا من قبله بالغربة أو في السجون وبفقدان الأهل والأحبة، وأصبح من كان يكفر بالأمس القريب بالآية:
﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾
يراها رأي العين.

شكرًا أستاذ كورونا على رسائلك وعلى مواعظك ونصائحك؛ نعم لقد قتلتَ أنفسًا، ولكنك أحييت أخرى كانت ميتة.

نورالدين خبابه
29 جويلية 2020

إرسال تعليق

[facebook]

أرسل رسالة نصية

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget