بعد مرور أربع سنوات على انطلاق الحراك الشعبي في الجزائر، يعود هذا المقال لقراءة المسار من جديد: كيف تحوّل الأمل في التغيير السلمي إلى حراك مخطوف، استُعملت فيه الأدلجة والصراعات داخل السلطة لاختطاف المطالب المشروعة، وإعادة إنتاج نفس المنظومة بوجوه مختلفة؟
لم يكن أحد من المتسلّطين على رقاب الشعب في الجزائر يفقه مصطلح الحراك لغويًا قبل أن يُباغتهم! وكيف يعرفونه وهم جاثمون على إرادة الشعب منذ زمن بعيد، وقد فوّتوا عليه فرص النهضة، يخافون كل فكرة أو تنظيم يحظى بدعم شعبي، ويقفزون على كل مشروع فيحتوونه: إمّا أن يستغلوه أو يحرّفوا مساره أو يفجّروه. وقد جاء الحراك السلمي ليقتلع جذور نظام عصابة عاثت في الأرض فسادًا، فعطّلت البلد باختصار، لولا الخيانة والغدر الذي وقع وتمّ إجهاض الحراك إلى حين.
في البداية كان الهدف من الترويج لمصطلح "الحراك" بدل "الثورة" أو "الانتفاضة" مراعاةً للمرحلة الحرجة التي كانت تمرّ بها الجزائر، خاصة وأن أيّ انزلاق أو عثرة قد يؤدّي إلى تصفية الحسابات وإلى حمّامات من الدم، لاسيما وأن أزمة التسعينيات لم تُعالَج معالجة كاملة ودائمة، والدليل في الحراك، كما أن الأغلبية الشعبية كانت متوجّسة من عملية التغيير.
لقد تحوّل هذا الأخير إلى بعبع تخوِّف به الدولة العميقة الشعب، فتبتزّ من تبتزّ وتشيطن كل حركة سلمية تسعى للتغيير، لاسيما والجزائر مرّت بفتنة عمياء ودفعت شرائح من الشعب كلفة غالية... والأغلبية من المقتنعين بالمسعى لم تكن مستعدّة للانخراط في أيّ انتفاضة شعبية غير مؤطَّرة.
حاولت بعض "الحزيبات" المسَيَّرة عن بُعد في مسيرات بالعاصمة بعد هروب بن علي في تونس، ومعها فئات يتمّ تجنيدها كلّ مرّة لاحتلال الشارع، منعًا للتغيير الحقيقي ومحاولة إبعاد بوتفليقة من الحكم، لكنّهم فشلوا في تجنيد الأغلبية. وكيف تسير الأغلبية معهم وهي تعلن رفضها لهم في عديد المناسبات، لاسيما وأنّ منهم من هو متورّط في المأساة ووالغ في الدماء؟
كانت محاولاتهم البائسة اليائسة مقدّمة لإبعاد سادتهم من مراكز القرار بعد تمرير الانتخابات التشريعية سنة 2012 والرئاسية سنة 2014، وكان هدفهم هو الاستيلاء على السلطة التي بدأت تفلت من أيديهم، خاصة وأنهم لا يؤمنون بالانتخابات، ووسيلتهم هي الدسائس والمؤامرات والانقلابات والقتل والابتزاز.
أصبح مصطلح "التغيير" للأسف مرادفًا للفتنة والخراب عند فئات من الشعب، نظرًا لما حدث في ليبيا وسوريا واليمن والعراق وأفغانستان... ويوحي بعودة جزائر التسعينيات، نتيجةً للحرب النفسية المستعمَلة والحشو والتدليس عبر وسائل الإعلام الرسمية، بل وعلى مواقع التواصل من خلال الصفحات المموَّلة...
كان المؤمنون بالتغيير الحقيقي ينتظرون الفرصة السانحة، لكنهم للأسف تفرّقوا في الوقت الحاسم بسبب الزعامات والتسابق نحو السلطة.
بدأ الحشد الشعبي مثل أمواج الطوفان المتراكمة القادمة من بعيد، نظرًا لكثرة الفساد الذي استشرى بشكل رهيب في مؤسسات الدولة، وتخبّط السلطات في المواقف، وصدور القرارات العشوائية والارتجال في التسيير، إلى درجة أن الغالبية أصبحت تطرح السؤال: من يحكم الجزائر؟ وإلى أين نحن متجهون؟
كانت القطرة التي أفاضت الكأس هي عجز بوتفليقة بعد الصدمة التي أقعدته، وأصبحت الجزائر من خلال الصورة المسوَّقة وكأنها سينما على الهواء ومسخرة يتسلّى بها الأعداء... فأسماء الضباط والمصالح وصور الثكنات ورتب الضباط أصبحت على المكشوف.
ووصل التحدّي ضد إرادة الشعب إلى تقديم بوتفليقة للترشّح وهو قعيد على كرسي لعهدة خامسة، وكأنّ الجزائر المعطاءة عَقِمَت؟
أطلت فضيحة القاعة البيضاوية التي قدّمته في إطار خشبي، وأصبح المواطن يشعر بالعار والتقزّز والهوان ويصرخ: هل هذه الجزائر التي حلم بها الشهداء وهذه التي أردناها؟ يا إلهي!
وتجمّعت المعطيات لرفض العهدة الخامسة، اللهمّ إلا المنتفعون... وحصل الإجماع ضدّها. ومع أن الحراك كان نتيجةً طبيعية لتراكمات وممارسات سلبية قادت الشعب للنزول إلى الشارع، إلّا أنّ جزءًا من الحراك كان مُسَيَّرًا ومُفتعَلًا من طرف جهات أمنية تريد استخدام الحراك كمطيّة لاستبدال واجهة النظام، ناهيك عن اختراق الحراك في المهجر ومربّعات كانت تسيرها أجهزة أمنية...
استُخدمت الأدلجة في مربّعات قصد التحكّم في مسار الحراك، بإثارة صراعات قديمة تعود إلى ما قبل ثورة التحرير، والتي لا تخفى على الحاذق... متوازية مع منع تأطير الحراك بشكل منظّم يُجبر النظام على تنازلات أو على مفاوضات، ويقوم أصحاب هذه المربّعات بالتشويش على كل مبادرة تهدف إلى إجماع وطني يحقّق التغيير وفق توافق يسعد فيه الجميع، بل وصل بهم الأمر إلى التعدّي على الناس قصد تنفير الجميع.
إنّ استمرار الحراك بسلمية لمدة طويلة لم يكن ثقافة تربّى عليها المجتمع، لاسيما وأن التجربة جديدة، بل وقعت احتكاكات وصدامات في بداية الحراك ووفيات، إلّا أنّ قيادة الجيش، ممثلة في قايد صالح، مع سيره منذ البداية باتجاه العهدة الخامسة وعزمه أن تُجرى الانتخابات في موعدها ووصفه الحراكيين بالمغرَّر بهم، إلا أنه غيّر رأيه بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرّض لها.
اقتنع محيط بوتفليقة بأن بنيان الحكم بدأ في التصدّع، فانحاز قايد صالح إلى الشعب مرحليًا، مستخدمًا زخم الحراك وعازفًا على المادّة 102 من الدستور، وفرض بالقوة خلع بوتفليقة، وأدخل طائفة من المحيطين بأخيه السعيد إلى السجن، كما أنه تعهّد بأن لا تسيل قطرة دم واحدة ما دام هو في الحكم، وكان ذلك دعامة لمواصلة الحراك بطريقة سلمية واستحسانًا، وتنفس المتخوّفون الصعداء.
غير أن الانقلاب على إرادة الشعب حصل بعد فرض الانتخابات بالقوة، دون مراعاة للمبادرات التي تمّ طرحها من طرف شخصيات وطنية ولقيت صدى داخل الحراك.
تمّ ترشيح مجموعة تنتمي لنفس النظام مع اختلافها في الطرح، وغرور بعض المتقدّمين للصفوف الأمامية، من الذين لم تكن لهم أي تجربة ما عدا الصراخ وترديد أهازيج لا معنى لها، والتفاخر في المواقع بعدد المشاهدات والإعجاب، ناهيك عن عقلية التخوين والتعميم التي سادت، ورفع شعارات لم تلقَ إجماعًا... إضافةً إلى عملية الشيطنة وتفريخ الاتهامات المعلّبة لكلّ معارض، والإغراق الذي تعرّض له الحراك بعدد الأسماء المصطنعة.
إنّ وفاة قايد صالح مباشرة بعد تمرير الانتخابات، التي طرحت عدّة تساؤلات ولا تزال، وضبّاطٍ آخرين لحقوا به، قيل إنّهم أُصيبوا بفيروس كورونا... ثم إخراج عدد من الضبّاط الذين أدخلهم السجن وإدخال آخرين كانوا يؤيّدونه... أفرغ الحراك من زخمه تدريجيًا وأعطى الفرصة لبعض المرائين والانتهازيين الذين جعلوا من الحراك مصدر رزقهم... وضدّ الغالبية صدمةً ليس من السهل تجاوزها.
وحصر الحراك في فئة كان مقدّمة لاحتوائه ثم إلصاقه بحركة "رشاد" و"الماك" وتفجيره. وها نحن بعد أربع سنوات من الحراك، لم يتغيّر شيء في الجزائر سياسيًا، بل اختُطف الحراك من أصحابه الحقيقيين، كما اختُطفت من قبل ثورة التحرير، وضاعت فرصة التغيير، وأصبحت فئات من الشعب تحنّ إلى أيام بوتفليقة لما رأوه من حَيْفٍ ومن غلاء فاحش وعيشةٍ ضنكاء، ومنهم من أصبح يفكّر في الرحيل، تاركًا الجزائر إلى شذّاذ الآفاق، فيما بقي باعة الأوهام مستمرّين في شذوذهم الفكري وغيّهم... ونعت الشعب بعدة ألقاب مستخدمين نفس المصطلحات التي يستخدمها أعداء الشعب.
لقد توفّي من توفّي، ومرض من مرض، وهرب من هرب، وسُجن من سُجن، وبقي مئات الآلاف عالقين في المهجر، ووصل الانتهازيون إلى المؤسسات المختلفة على ظهر الحراك.
نورالدين خبابه
03 مارس 2023

إرسال تعليق